كتب نبيل هيثم في صحيفة “الجمهورية”:
مع أنّ الأفق اللبناني ما زال ملبّداً بغيوم السياسة والمال، إلّا أنّ ثمة ملاحظات لا بدّ من التوقف عندها في سياق المواقف والتحرّكات المحلية والدولية، بعدما تبدّى، خلال الأسابيع القليلة الماضية، بأنّ الأزمة الاقتصادية – السياسية قد وصلت إلى مفترق طريق اللاعودة.
على الأرض، باتت التحرّكات مجرّد استعراض باهت، يمكن إدراجه تحت شعار «نحن هنا». هي مفارقة مثيرة للانتباه، اذا ما اخذنا في الحسبان أنّ ضريبة هامشية كانت مطروحة في مجلس الوزراء عنوانها «الواتساب» قد اشعلت شرارة 17 تشرين الأول، في حين أنّ كل المصاعب الاجتماعية والمعيشية، من ارتفاع سعر صرف الدولار، ومعه السلع الرئيسية، ناهيك عن ارتفاع معدلات البطالة والتسريح الجماعي من العمل، لم ترقَ الى ردود فعل شعبية تجاهها، سوى صرخات اعلامية سرعان ما تتلاشى في ضجيج السياسة.
هذا ما يؤكّد مجدداً أنّ أزمة الشارع تكمن في أنّ ايقاعه محسوب على دقّات ساعات اللعبة السياسية، التي ما زالت تتعامل مع الواقع اللبناني كما لو أنّ شيئاً لم يحدث!
اليوم، يبدو وكأنّ خيار التهدئة قد اتُخذ، بكلمة سرّ أتت من مكان ما، أو ربما عدد من الأمكنة، من المؤكّد أنّ كلها في خارج لبنان. هذا ما تشي به المواقف الدولية التي تتراوح اليوم بين تراجع منسوب التصعيد الأميركي، بعد سيل المواقف العاصفة التي أتت على لسان كبار المسؤولين والدبلوماسيين في واشنطن وبيروت؛ وبين اندفاعة فرنسية ستتجّسد خلال اليومين المقبلين في الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية إلفرنسية الى بيروت.
ثمة قاسم مشترك في التحرّكات الأميركية والفرنسية، وهو أنّها باتت مندرجة تحت بند «الإصلاحات» التي من شأنها أن تُفرج عن الأموال التي يتعطش إليها الاقتصاد اللبناني للخروج من أزمته، وإن كان المنطق العام يشي بأنّ الأمر، لا سيما عند الأميركيين، يتطلب تسديد فاتورة سياسية معينة، تنصّب بشكل أساسي على مسألة سلاح «حزب الله».
بالرغم من ذلك، يُدرك الأميركيون أنّ تسديد الفاتورة السياسية يتجاوز الاستحالة، وهو أمر لا يحتاج الى كثير من الجهد في الدوائر السياسية والدبلوماسية الأميركية لفهمه: الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله كان واضحاً في رفض معادلة الجوع مقابل السلاح، والاشتباك الأوسع بين الولايات المتحدة وايران، والذي يتخذ اليوم شكلاً من أشكال المواجهة السيبرانية، لا يشي بأنّ التسوية قريبة، اقلّه في ما تبقّى من وقت، قبل أن تقول الصناديق الأميركية كلمتها، لتحدّد ان كان دونالد ترامب سيستمر في الاحتفاظ بمفاتيح البيت الأبيض أم أنّه سيسلّمها إلى جو بايدن.
هذا ما يجعل الولايات المتحدة أقرب ما تكون إلى اعتماد مقاربة براغماتية في كافة الملفات، بما في ذلك الملف اللبناني، خصوصاً أنّها تلقفت عرضاً غير مباشر للتهدئة، على لسان السيد نصرالله نفسه في آخر خطاب له، حين ترك الباب مفتوحاً للتعاون بين الحكومة اللبنانية والحكومة الاميركية برغم العداوة القائمة بينه وبين اميركا.
في الوقت نفسه، ثمة واقع على الأرض لا يمكن لأي ادارة أميركية أن تقفز فوقه، وإلّا خاطرت بمصالحها اللبنانية، وأهمها على الإطلاق، أنّ الانهيار الذي يبشّر به البعض لن يقتصر على فئة لبنانية دون سواها، ما يعني، بعبارة أخرى، أنّه سيطال خصوم أميركا وحلفاءها على حدٍ سواء، وهو ما يجعل الولايات المتحدة تتقاطع عند هذه النقطة مع فرنسا في منع انهيار لبنان، أو على الأقل تأجيله.
وإذا ما صحّت التقارير الاعلامية الغربية، التي تحدثت عن اجتماع دبلوماسي عُقد في باريس بمشاركة ممثلين عن الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والمانيا لمناقشة تطورات الملف اللبناني، وأنّ ثمة نية بتقديم المساعدة للبنان، أو على الاقل تجنيبه مصير الانهيار الاسود، ستكون البلاد قد استعادت مجدداً هامشاً مفقوداً منذ فترة، لكسب الوقت بانتظار التحوّلات الخارجية، إن على مستوى الانتخابات الاميركية، أو على مستويات التناقضات والتقاطعات والتسويات الاقليمية.
ومن الواضح حتى الآن، أنّ الولايات المتحدة بشكل خاص، والغرب بشكل عام، باتا امام حقيقة واقعية، مفادها انّ إسقاط حكومة حسان دياب لن يؤدي إلى النتائج المرجوة، ذلك أنّ خطوة كهذه ستسرّع الانهيار أو حتى تشديد سيطرة «حزب الله» على الدولة اللبنانية – وفق الأدبيات الغربية التي باتت معروفة – وبالتالي، فإنّ الحل يكمن في منح الحكومة بعض «الاوكسيجين» يسمح لها بتسيير أمور البلاد، إلى أن تحسم خيارها بشأن الإصلاحات الاقتصادية.
ومن الجائز أن تكون هذه الانعطافة الغربية نابعة من تحوّلات اقليمية، تجعل الاميركيين راغبين في ابقاء لبنان بعيداً إلى حد ما عن الاشتباك الاقليمي، الذي يمتد اليوم من المنشآت العسكرية والصناعية والطبية الإيرانية إلى ميادين المواجهة في العراق وشرق سوريا، والتي تتطلب، وفق الرؤية الاميركية، عدم المخاطرة بفتح جبهات جديدة، لا سيما بالقرب من اسرائيل، سواء في لبنان أو الجولان، وهي اشارات احسن «حزب الله» التقاطها، ويبدو أنّها باتت ورقة يمكن استخدامها لتخفيف الضغط عن لبنان.
علاوة على ما سبق، فإنّ دول الخليج تبدو اليوم أكثر ميلاً للتهدئة في الملف اللبناني، وذلك لاعتبارات متعددة، أهمها، بطبيعة الحال، التوجّهات الأميركية المهادنة، علاوة على فشل المكوّنات الحليفة لهذه الدول، في تشكيل جبهة معارضة يمكن أن تشكّل نقطة ارتكاز لبنانية. وثمة كذلك عامل يتجاوز حدود لبنان، ويفسّر التراجع الخليجي في الاستثمار في الأزمة السياسية، ويتمثل في دخول طرف اقليمي على خط الأزمة السياسية، وإن خلف الستار، والمقصود بذلك تركيا، المنافس الأول للنفوذ السعودي- الاماراتي في المنطقة.
ربما أبرز تجلّيات الموقف الخليجي تمثّل في رسالة الدعم التي تلقاّها الرئيس ميشال عون من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بما حملته من تمنيات، في ما يمكن اعتباره مؤشراً الى أنّ ثمة باباً يمكن فتحه لإعادة التنسيق بين الدولة اللبنانية والجهات الخليجية، عبر الوسيط المصري، وهو ما يمكن أن يشكّل رافعة للحراك الذي بدأه اللواء عباس ابراهيم خلال الأيام الماضية على اكثر من خط.
هذا ما يفسّر اليوم انحسار مناخ التشنج الذي كاد يلقي بلبنان قبل شهر ونيّف في اتون الفتنة الطائفة، من دون أن تعني التهدئة امكانية الوصول إلى تسويات شاملة لكافة الملفات، بدليل دخول عنوان «حياد لبنان» الذي رفعه البطريرك الماروني بشارة الراعي، في بازار المواقف السياسية، ليحتل صدارة الحراك السياسي، ومُجدّداً جدلاً بيزنطياً من عمر لبنان نفسه، لا شك أنّ أحداً لا يستطيع حسمه لا اليوم ولا غداً، كما كان الأمر في الماضي، ليصبح «الحياد» عنوان ترف السياسة المحلية، التي تسير حسبما يبدو، في لعبة الانتظار للتحولات المتجاوزة حتماً حدود لبنان وحياده النظري!