كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
لم يسمِّ البطريرك بشارة الراعي، بدعواته المكررة لإعلان حياد لبنان، الجهة السياسية التي تحول دون ترجمة دعوته على أرض الواقع، ولكن «حزب الله» تلقى الرسالة جيداً، فيما كل القوى السياسية تعلم تمام العلم انّ الحزب هو المقصود.
إنقلبت الأدوار بين السنّة والشيعة، بين الميثاق الأول في العام 1943 والميثاق الثاني في العام 1989، إذ في حين كان الحياد مرفوضاً سنياً بسبب تعلُّق السنّة بالقضايا العربية على حساب القضية اللبنانية، تحوّل الحياد إلى مرفوض شيعياً بفِعل الارتباط العضوي للفريق الأقوى داخل هذه البيئة بالمشروع الإيراني على حساب المشروع اللبناني، وفي كل الوقت كان الحياد مطلباً مسيحياً.
وعلى رغم كل ما قيل عن تحالف الأقليات، إلّا انّ هذا التحالف هو مجرد وهم لأنه يستحيل على أقليات قَلقة على وجودها ومسكونة بهواجس تاريخية موروثة ان تتفِق بين بعضها البعض، فيما بإمكانها بكل سهولة أن تتّفق مع أكثرية لا يتملّكها هاجس الخوف والاضطهاد، والدليل على ذلك انه رغم الاختلاف الاستراتيجي حول دور لبنان بين المسيحيين والسنّة، إلّا أنهما نجحا في إبرام ميثاق 1943، ونجحا بتجاوز حوادث 1958. ولو لم تُفقِد الحرب الطائفة السنية مفاتيح الحلّ والربط لكانت نجحت مع المسيحيين في إنهاء هذه الحرب قبل الاتفاق في الطائف في العام 1989.
والاتفاقات الأربعة التي أبرمت في الأعوام 1943 و1958 و1989 وأخيراً في العام 2005 مع انتفاضة الاستقلال، تؤكد بوضوح انّ ما كان ممكناً بين المسيحيين والسنّة هو متعذّر اليوم بين القسم الأكبر من اللبنانيين والحالة الشيعية التي يمثلها «حزب الله»، وتذكيراً بأنّ الاتفاقات الأربعة التي أبرمت كان عنوانها الدولة والدستور والميثاق، ولم تكن اتفاقات أمر واقع أو لتقطيع الوقت والمساكنة بين مشروعين كما هو الحال اليوم، ما يعني انّ ما يسمّى بتحالف الأقليات هو مجرد وهم، وأيّ تفاهم في ما بينها يكون على قاعدة استتباعية طرفٍ لآخر، وليس على قاعدة الشراكة والمساواة والدستور.
والهدف من هذا الكلام القول انّ الوصول إلى أيّ تفاهم مع «حزب الله» سيبقى مستحيلاً ما لم تعدِّل إيران في دورها الإقليمي، وبالانتظار سيبقى لبنان مساحة اشتباك داخلية وصندوق رسائل لطهران، ولكن في ظل حرص بين معظم الأطراف على إبقاء التوتر الداخلي منخفضاً بسبب الأزمة المالية الخانقة، وعدم رغبة أي طرف بالتوتير، فلا الفريق المؤيّد للحياد يسعى في الوقت الحاضر إلى تأسيس جبهة لحمل هذا الطرح الدستوري والميثاقي، ولا «حزب الله» يريد الدخول في اشتباك مباشر رفضاً للحياد الذي تؤدي إعادة العمل به إلى إنهاء الدور الخارجي للحزب والداخلي بتسليم سلاحه، بل فضّل أن يأتي الردّ عن طريق الرئاسات الثلاث واستطراداً النائب جبران باسيل، ومن خلال ترحيل الحياد إلى حوار لن يأتي بنتيجة وإغراقه بملفات تتطلّب قرناً بالحد الأدنى لحلها، وأمّا الأسباب الكامنة وراء تجنُّب الحزب الرد مباشرة على البطريرك، فمردّها إلى الآتي:
أولاً، العنوان الذي يعمل عليه «حزب الله» في هذه المرحلة هو الحفاظ على «الستاتيكو» القائم حتى إشعار آخر، فلا يريد جرّه إلى اي اشتباك داخلي، وحتى في مرحلة التكليف والتأليف نأى بنفسه عن الاشتباك مع الرئيس سعد الحريري، بل حرص على توجيه إشارات إيجابية لرئيس «المستقبل» بأنه يتفهّم موقفه وقراره برفض التكليف، وواصَل سعيه لتحييد رئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط عن أي اشتباك في الملفات التي تزعج الحزب، وبالتالي يسعى للتبريد في الداخل منذ العام 2014 مع تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام إلى اليوم.
ثانياً، تمسُّك «حزب الله» بـ»الستاتيكو» مردّه إلى كونه يصبّ في مصلحته، لأنه لا يريد التسخين السياسي في اللحظة التي تتعرض فيها طهران لحصار شديد، وفي الوقت الذي يتعرض فيه بدوره لضغوط في أكثر من ملف: المحكمة الدولية التي تصدر حكمها في 7 آب ويريد تمرير هذا الاستحقاق بأقل توتر ممكن، ترسيم الحدود الذي يدرك انّ الهدف منه تعطيل دوره في مواجهة إسرائيل، السعي إلى تعديل مهمة «اليونيفيل» والذي يعتبره ورقة ضغط على بيئته الخائفة من ان يشكّل إنهاء المهمة او تعديلها إشارة لحرب محتملة، الغليان الشعبي بسبب الأزمة المعيشية وخشيته من خروجه من تحت الضبط، والأزمة المالية المفتوحة على الأسوأ في ظل غياب أي مؤشّر للمساعدات الخارجية.
فلا يريد الحزب بهذا المعنى ان يفتح على نفسه ملفاً إضافياً بل ويوازي كل الملفات الأخرى، لأنّ ايّ اشتباك داخلي في ظل ملفات الضغط الموجودة يمكن ان يؤدي إلى تسريع وتيرة الانهيار الشامل وشبك الداخل مع الخارج لإطباق الخناق عليه، ولا يريد جرّه إلى استخدام آخر أوراقه وهي «عليّ وعلى أعدائي» الذي يمكنه اللجوء إليها في اي وقت طالما انّ الأمور ما زالت، بالنسبة إليه، تحت السيطرة.
ثالثاً، يخشى «حزب الله» ان يؤدي ردّه المباشر على البطريرك إلى اشتباك مسيحي-شيعي، فيحرج العهد ويفاقم من أزمته في الشارع المسيحي على أثر الانهيار المالي الذي حصل في عهده وغياب المعالجات للخروج من الأزمة، فضلاً عن انّ وضع بعبدا لحظة انتخاب الرئيس ميشال عون كان أفضل من وضع بكركي مسيحيّاً، فيما وضع بكركي اليوم هو أفضل من وضع بعبدا، وبالتالي الاشتباك معها يضرّ ولا يفيد، وتقاطعها مع معراب حول فكرة الحياد يشكّل حلقة حصار مسيحية على العهد الفاقد أساساً لحاضنته الشعبية، وانطلاقاً من كل ذلك تمّ الاتفاق بين «الحزب» والتيار أن ينأى الأول بنفسه عن الرد، وأن يُجهض الثاني الفكرة من دون الصدام مع البطريرك على قاعدة انّ الفكرة التي لا خصم لها ولا ظروف مواتية لتحقيقها تموت لوحدها.
وما يدلّ على الوهن الذي وصل إليه العهد مسيحياً انه بات يتحاشى أي صدام مع بكركي خلافاً لتاريخه الحافل بالمواجهات على هذا المستوى، بدءاً من المواجهة الكبرى عندما اختلف معها سياسياً حول هوية رئيس الجمهورية في اتفاق الطائف، كما رفض ان يكون تحت عباءتها ضمن لقاء «قرنة شهوان»، وخاض انتخابات العام 2009 على أساس تحالفات ومشروع يتناقض مع ثوابت بكركي.
وفي موازاة انّ اي اشتباك بين «الحزب» وبكركي يؤدي إلى إحراج العهد، فإنّ «الحزب» بدوره لا يريد الاشتباك مع البطريركية المارونية لسببين على أقل تقدير: السبب الأول هو انّ صوت بكركي مسموع دولياً، والاشتباك معها تحت عنوان الحياد يؤدي إلى ربط نزاع دولي مع هذا العنوان، ما يشكّل ورقة ضغط إضافية في مرحلة تحولات خارجية، بل خريطة طريق دولية للانقضاض عليه. وبالتالي، من مصلحته تجاهل الموضوع جملة وتفصيلاً، والاتكاء على الوضع الضاغط معيشياً وصحياً لتجاوز إشكالية الحياد.
السبب الثاني هو انّ الاشتباك مع بكركي يختلف عن الاشتباك مع أي فريق سياسي داخلي يمكن وضع الخلاف معه تحت عنوان سياسي متواصل منذ العام 2005 إلى اليوم، فيما الاشتباك معها يمكن ان ينزلق او ان يتحوّل عمداً إلى مواجهة شيعية-مسيحية، الأمر الذي يَتجنّبه لـ3 اعتبارات أساسية: الاعتبار الأول لأنه بنى جزءاً من دعايته الإعلامية على فكرة عدم اشتباكه يوماً مع المسيحيين، والاعتبار الثاني كون مواجهته مع بكركي يمكن ان تَستجرّ تعاطفاً دولياً معها على خلفية مسيحية، والاعتبار الثالث لأنّ أي شَد عصب مسيحي ضده يصبّ في مصلحة «القوات» على حساب «التيار الحر».
وعلى رغم انّ رهان «حزب الله» هو الالتفاف على فكرة الحياد وإنزالها من مرتبة الحدث الأول إلى مجرد تفصيل في الحياة السياسية، إلّا انّ الحياد تحوّل بمعزل عن مرتبته إلى العنوان الذي سيوضع على طاولة أي مفاوضات دولية لحلّ الأزمة اللبنانية.