كتبت مارلين وهبة في “الجمهورية”:
خابَ أمل بعض السياسيين اللبنانيين من زيارة وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان، بعد التسريبات عن أنّ هدفها تقديم الدعم والخطط الإنقاذية والهبات المادية للمعاهد التربوية الفرنكوفونية منعاً لإقفالها وانهيارها…
هذا الأمر راق لغالبية المثقفين في لبنان وهم الأوفياء، بحسب لودريان، منذ زمن للتعليم الفركوفوني والواثقون من انّ الدولة الفرنسية لن تتخلى عن دورها للحفاظ عليهم.
في المقابل خاب ظنّ البعض الآخر من السياسيين المعنيين بعملية الانقاذ والمترقّبين لزيارة الوافد الكبير لعلّه استنبط حلولاً، وتأبّط مساهمات مادّية للدولة المتعثرة…
هؤلاء راهنوا على زيارة الضيف الفرنسي الرفيع المستوى متسائلين عما اذا كانت فرنسا ما زالت متحمّسة كالسابق لتقديم الدعم السياسي والمادي للبنان، أم أنّ «الأم الحنون» قصدت لبنان فقط في زيارة معنوية لتعانقه… وترحل؟
في المعلومات أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قدّم هبة بقيمة عشرة ملايين يورو للمدارس الكاثوليكية، خصّصت عموماً للمدارس الناطقة باللغة الفرنسية. وفي هذا الاطار أوضح الباحث التاريخي الدكتور نبيل خليفة «انّ فرنسا في الحقبة الماضية كان يهمّها فقط الوجود المسيحي في لبنان، أمّا اليوم فقد ازداد اهتمامها لأسباب اضافية ومتفاوتة بعدما اصبح لبنان يمثّل لفرنسا ولبقية الدول قيماً متعددة»، لافتاً في هذا الاطار الى «اهمية اختيار الامم المتحدة لبنان ليكون مقرّاً أساسياً لأكاديمية الثقافة للحوار والحضارات»، مؤكداً أنه كان قد تقدّم شخصياً بهذا المشروع عام 1994 في اجتماع بطاركة الشرق في الربوة.
أمّا عن زيارة لو دريان فيوضح خليفة «أنّ المجتمع الدولي، بمَن فيه فرنسا، طالب السياسيين بالاصلاحات وعليهم تنفيذها قبل طلب المعونة المادية او المعنوية. وبما أنّ لبنان لم يبدأ بترجمتها واقعياً على الارض، توجّه، في رأي خليفة، وزير الخارجية الفرنسية الى لبنان حاملاً رسائل سياسية تحفيزية لِحضّ لبنان على البدء بمسيرة الإصلاحات، واختار تقديم المساعدة العملية في الأماكن التي تستطيع فرنسا المساعدة، فاختار القطاع التربوي لأنه بالغ الأهمية بالنسبة الى الدولة الفرنسية وتكون بذلك زيارته حققت أهدافاً عملية. وبالنسبة الى الهدفين المهمين فيمكن القول انّ لودريان حققهما خلال زيارته:
ـ الاول، حضّه الدولة اللبنانية على تفعيل الاصلاحات المطلوبة لأنها مراقبة دولياً حتى تستطيع فرنسا المبادرة سياسياً الى لعب دورها المؤثر اقليمياً ووضع خطة لمساعدة لبنان.
ـ الثاني، مساعدة لبنان الثقافي من خلال الدعم المادي الذي سيخصّص للمؤسسات التربوية الفرنكوفونية القديمة العهد.
ويرى خليفة «انّ لبنان بالنسبة الى فرنسا ليس بلداً عادياً، ولذلك من المؤكد انّ اهتمام الدولة الفرنسية سينحصر، او بالاحرى سينتقل، من الاهتمام بالنطاق السياسي والاقتصادي الرسمي الى النطاق الثقافي والتربوي، لأنّ فرنسا تعتبر الفرنكوفونية اللبنانية من أساسيات علاقتها بلبنان، وهذا ما أشار اليه لودريان في كلمته من الخارجية اللبنانية، كاشفاً عن خطة إنقاذية وضعتها فرنسا لحماية الفرنكوفونية اللبنانية. فيما يلفت خليفة الى أنّ لودريان يعلم أنه بخياره هذا إنما اتجه الى المكان السليم الذي لن يسبّب له اي إشكال أو إعاقة سياسية لبنانية داخلية.
نفط لبنان… ثقافته
يسأل خليفة عن الأهمية القصوى الذي يوليها العالم اليوم للبنان، بسبب مجموعة قيّم ثقافية وسياسية يمكن ان تفجّر المنطقة بكاملها، مذكّراً بقول رئيس وزراء ايطاليا رومانو برودي «انّ جميع استراتيجيات العالم تلتقي في لبنان. أمّا القيمة الثالثة، في رأي خليفة، فهي «القيمة المادية للبنان المتمثلة بالمياه والنفط والغاز والمناخ وكل هذه القيم تلخّص الخصوصية اللبنانية أو الثروات التي يسعى اليها الغرب، وهي قيم متفاوتة معنوية ومادية واستراتيجية واقتصادية، فإذا تفجّر لبنان سيفجّر الشرق الاوسط. وبالتالي، الغرب اليوم هو أكثر حاجة الى كل تلك القيم، وهذا ما جعله يتابع باهتمام التطورات اللبنانية. ولأنّ لبنان لم يعد ذلك البلد الذي قال كسينجر عنه يوماً «لبنان دولة فائِض يمكن الاستغناء عنها»، فاتّضح اليوم انّه من الضروري حماية هذه الدولة لأنّ الاميركيين أو الفرنسيين لو أرادوا الاقامة في مناطق آمنة في الشرق خالية من الارهاب والاصولية فلن يمكنهم الاقامة سوى في لبنان، ولذلك اصبح الفرنسيون في حاجة لنا أكثر بعد تفشي الاصولية الاسلامية، أي انّ لبنان أصبح ملجأً للغرب».
الحياد؟
مصادر مطلعة على زيارة لودريان صَوّبت هدف الزيارة، مشيرة الى انه لا يمكن إدراج زيارة رسمية لوزير خارجية أو وَضعها فقط في إطار تقديم المساعدات المادية للمؤسسات التربوية من دون ان تحمل في طيّاتها رسائل سياسية…
وفي سياق متصل تذكّر مصادر ديبلوماسية باللقاء الذي انعقد في اوروبا بين الفرنسيين والاميركيين والانكليز والالمان، حيث طرحت فيه خطة لإنقاذ لبنان تقوم على خطوتين: الاولى، عنوانها تحرير الشرعية. والثانية، استقالة الحكومة وتأليف حكومة تكنوقراط.
المصادر نفسها تقول لـ»الجمهورية» انّ الخطة وصلت الى رئيس الجمهورية فلم تتم الموافقة عليها، فيما يبدو أنّ البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي تَلقّف اليوم الفكرة بطرحه أولاً تحرير الشرعية ليعود ويكتفي نتيجة التدخلات الداخلية والوصايا السياسية بطرح الحياد الايجابي وتجاهل الفكرة الاولى أي تحرير الشرعية، في وقت أراد المجتمع الغربي أن تكون مواقف الراعي اكثر تحديداً وصلابة. إلّا انّ المصادر نفسها ثَمّنت خطوة الراعي كبداية، لِما حققته من خرق لـ»الستاتيكو» السياسي القائم، بعد ترويجه فكرة الحياد واعادة تصويب خيار الكنيسة الكاثوليكية الى خريطة الحياد السياسي والوطني المستقل.
وترجّح المصادر نفسها ايضاً انّ رسالة الراعي لم تأتِ مثلما اعتقد البعض بمبادرة شخصية منه، وربما يكون توقيت زيارة لودريان على صِلة بطرح الراعي للحياد، علماً انّ لودريان لم يُشر في مؤتمره الصحافي الى فكرة الحياد. لكنّ المصادر نفسها تقول انه لا يمكن وضع زيارة رسمية لوزير خارجية فرنسا في إطار تقديم مساعدات مالية للمدارس الكاثوليكية الخاصة فقط، لأنّ الأمر لن يستدعي قدومه في زيارة من هذا النوع، بل كان اكتفى بإيفاد مسؤول ثقافي رفيع المستوى لهذه المهمة.
ميتران طرح الحياد
وتختم المصادر الديبلوماسية انّ فرنسا يهمّها اليوم إنقاذ لبنان من الانهيار وتهمّها مؤسساته كافة، لذلك فهي ترى انّ الحياد ليس خياراً للانقاذ من بين خيارات، بل هو الخيار الوحيد المناسب وهو مطروح منذ سنوات. وترى تلك المصادر انه قد يكون لاقى طريقه عبر خطوط متشابكة، ولا يمكن معرفة من تقدّم بهذا المشروع لأنّ الهدف هو الاساس، وربما تكون نخبة من المفكّرين قد تقدمت بهذا المشروع للبطريرك او لسواه، ففكرة تحييده او حياده قد تكون إشارة أو رسالة أو فكرة وصلت الى الراعي بواسطة بعض الجهات، وذلك للبدء من مكان ما، فكان مشروع الحياد…
وتقول المصادر المطلعة على زيارة لودريان انّ الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران كان أوّل من حمل شعار الحياد وضرورة إبقاء لبنان حيادياً.