كتب علي زين الدين في “الشرق الاوسط”:
وصلت احتياطات البنك المركزي اللبناني من العملات الصعبة القابلة للاستخدام إلى مستويات مقلقة، في ظل انحباس شديد في موارد التدفقات الخارجية وتراجع تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج والمغتربين. في حين يلتزم «المركزي» بتغطية اعتمادات مستوردات السلع الاستراتيجية من محروقات وقمح وأدوية بالسعر الرسمي البالغ 1515 ليرة، وبدعم تمويل استيراد نحو 300 سلعة أساسية بسعر 3900 ليرة للدولار.
وكشفت الميزانية الدورية لمصرف لبنان، عن هبوط لافت بمقدار 2.16 مليار دولار خلال النصف الأول من الشهر الحالي، وهو مبلغ يوازي نحو 10 في المائة من الاحتياطي السائل، ونحو 6.5 في المائة من إجمالي الاحتياطي الذي أظهرته ميزانية البنك في منتصف العام الحالي. وبذلك وصل الاحتياطي الإجمالي من العملات الصعبة إلى 30.8 مليار دولار، مقابل 32.96 مليار دولار في أول شهر تموز الحالي. وذلك تزامناً مع بدء ضخ التمويل المدعوم عبر المصارف لتغطية مستوردات 300 سلعة أساسية.
وتظهِر جدية المخاوف من خلال احتساب المبلغ الصافي القابل للاستعمال في الموجودات الخارجية لمصرف لبنان، والذي يقدر انخفاضه دون عتبة 18 مليار دولار، وهو مستوى قريب جداً إلى الاحتياط الإلزامي الذي يفرضه «المركزي» على الودائع الدولارية في البنوك، حيث يفرض «المركزي» بموجب تعميم أساسي على المصارف كافة، أن تودع لديه نسبة 15 في المائة من جميع أنواع الودائع مهما كانت طبيعتها التي تتلقاها بالعملات الأجنبية.
وما من نص قانوني جازم يمنع استخدام «المركزي» لحصيلة التوظيفات المصرفية الملزمة لديه، كما أنها غير معرضة للتناقص المؤثر في ظل تقييد السحوبات والتقنين المتشدد للتحويلات من قبل المصارف.. لكن مجرد الاضطرار إلى التصرف بأجزاء منها من دون معالجات جدية للسيولة وتدفقاتها سيرفع حتماً من منسوب الهواجس التي تلاحق المودعين المقيمين وغير المقيمين في المصارف؛ وأيضاً ريثما يقر مجلس النواب قريباً – وفق التوقعات – مشروع قانون «الكابيتال كونترول»، والذي يطالب به خبراء صندوق النقد الدولي لإضفاء المظلة القانونية على تدابير «المركزي» والمصارف.
ويتضمن الاحتياطي الإجمالي للبنك المركزي نحو 5 مليارات دولار من سندات الدين الدولية (يوروبوندز) والتي أعلنت الحكومة رسمياً في السابع من شهر مارس (آذار) الماضي توقفها عن دفع الشرائح المستحقة وفوائدها؛ مما أوجب خضوع كامل المحفظة البالغة نحو 32 مليار دولار للتدبير ذاته؛ مما يعني أن هذا الجزء من السيولة دفتري إلى حين اتفاق الدولة مع دائنيها الأجانب والمحليين وتبيان نسبة الاقتطاعات التي ستسري على أصول السندات وفوائدها.
ولا يفصح مصرف لبنان عادة عن مكونات احتياطه، لكن مصادر مصرفية تشير إلى أنها تتضمن أيضاً تمويلات زودها «المركزي» سابقاً للمصارف بنحو 8 مليارات دولار، في حين هي توظف نحو 74 مليار دولار لديه على شكل ودائع وشهادات استثمارية، وما يعادل نحو 36 مليار دولار محررة بالليرة. علماً بأن البنك المركزي يحمل في ميزانيته أيضاً ما يماثل 34 مليار دولار من الديون الحكومية بالليرة. في حين يحمل الجهاز المصرفي ديوناً حكومية أيضاً بنحو 11 مليار دولار من سندات الدين الدولية، وما يماثل 14 مليار دولار من سندات الخزينة المصدرة بالليرة. في حين تناهز محفظة التمويل المصرفي للقطاع الخاص نحو 43 مليار دولار.
وبمعزل عن هذا الوضعية المالية الشائكة التي أوقعت البلاد في أزمات نقدية ومالية غير مسبوقة، وأفضت تلقائياً إلى اختناقات شديدة في إدارة السيولة النقدية للودائع في الجهاز المصرفي التي تبلغ حالياً نحو 150 مليار دولار، يرى مسؤول مصرفي أن «النزف المتواصل من الاحتياطات السائلة يشكل خطراً داهما على استمرار انسياب السلع الاستراتيجية والأساسية، والتي تخفف حتى الآن نسبياً من سرعة دخول البلاد في آتون التضخم المفرط، وضم غالبية المواطنين إلى خانتي الفقر والفقر المدقع، وتفاقم أكبر وأشد إيلاماً في المشكلات المعيشية والاجتماعية القائمة، والتي تحفز عشرات الآلاف من الكفاءات العلمية والمهنية إلى الهجرة».
ويلفت المسؤول في اتصال مع «الشرق الأوسط» إلى أن «لبنان استنفد فعلياً (قدرات شراء الوقت)، وبما يشمل كل مهل السماح التي منحه إياها المجتمع الدولي ومؤسساته الراغبة في المساعدة… بينما يتعثر الملف الإصلاحي في القطاعات الحيوية كالكهرباء والاتصالات وحوكمة الإدارة في المؤسسات، وتعيين الهيئات الناظمة، واستقلالية القضاء ومكافحة التهريب عبر الحدود وسواها من شروط إصلاحية لازمة تتنصل الحكومات المتعاقبة عن التزامها؛ وهي تحضر كأولوية تلقائية في مسار المفاوضات التي يجريها الفريق اللبناني برئاسة وزير المال غازي وزني مع خبراء صندوق النقد الدولي بهدف الحصول على برنامج تمويلي يسد جزءاً من الحاجات الملحة إلى السيولة بالعملات الأجنبية».
وبالفعل، تبين ميزانية البنك المركزي تراجعاً في قيمة الموجودات الخارجية بنسبة 16.8 في المائة، أي ما يوازي 6.22 مليار دولار على أساس سنوي، مقارنة بمنتصف يوليو من العام الماضي والبالغ حينها 37.02 مليار دولار. بينما تظهر الحسابات المجمعة ارتفاعا في قيمة احتياطات الذهب بنسبة 27.88 في المائة، أي نحو 3.64 مليار دولار في فترة المقارنة عينها، لتصل إلى نحو 16.7 مليار دولار. وبذلك يشكل إجمالي الاحتياطات (الموجودات الخارجية واحتياطات الذهب) الواقعي والدفتري نحو 45.72 في المائة من الدين العام الإجمالي، و50.73 في المائة من صافي الدين العام، وهو يغطّي نحو 147 شهراُ من خدمة الدين.