كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
أكثر ما يحتاجه «حزب الله» في هذه المرحلة هو الهروب من العناوين اللبنانية التي تزعجه وترتدّ عليه سلباً، وما أكثرها، إلى العنوان الإسرائيلي الذي يلجأ إليه في كل مرة إمّا حَرفاً للأنظار عن ملفات محددة، وإمّا سعياً لفتح نافذة مع انسداد كل الأبواب في وجهه.
إخترق العنوان الإسرائيلي جدار الأزمة المالية «السميك» من زاوية سقوط عنصر لـ»حزب الله» في غارة إسرائيلية على موقع إيراني قرب مطار دمشق في مطلع الأسبوع الماضي، الأمر الذي اعتبره الحزب كسراً لقواعد الاشتباك بين الطرفين التي كان قد حددها سابقاً بأن لا خطوط حمراء، وانّ سقوط ايّ مقاتل للحزب في لبنان او خارجه سيرد عليه في لبنان أو خارجه. وقد تزامَن هذا التطور القتالي مع تَصدُّر عنوان الحياد الذي رفعه البطريرك مار بشارة بطرس الراعي كل العناوين السياسية، وبما يتناقض كلياً مع العنوان القتالي لـ«حزب الله»، ليس فقط من زاوية امتلاك الحزب للسلاح خلافاً للدستور ومصادرته دور الدولة، إنما أيضاً لجهة مبرّر قتاله في سوريا. وإذا كانت حجّته في المرحلة الأولى التصدي لـ«داعش»، فما هي ذريعته للبقاء في سوريا بعد زوال «داعش»؟ ولماذا لا يرد على إسرائيل من الجولان طالما انّ الموقع الذي استهدفته وسقط له فيه عنصراً هو في سوريا؟ وما دَخل لبنان واللبنانيين بمواجهة إقليمية على الأرض السورية؟ ولماذا على الشعب اللبناني ان يدفع الثمن دائماً إذا كانت موسكو لا تسمح للحزب بالرد من الجولان؟
وقد تزامنَ هذا التطور القتالي أيضاً مع الكلام الخطير الذي أعلنه وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بأنّ «لبنان اليوم على حافة الهاوية، وإذا لم يتم اتخاذ خطوات إصلاحية سريعة، فقد يذهب لبنان إلى الهلاك»، وبدلاً من ان يشكّل الإعلان الفرنسي الخطير يقظة ضمير لدى الأكثرية الحاكمة وان تعلنها مواجهة مفتوحة مع الأزمة المالية لمعالجتها عن طريق مبادرتها فوراً إلى الإصلاح تجنّباً للهلاك، فإذا بالعمود الفقري لهذه الأكثرية يأخذ البلد نحو مواجهة أخرى، وكأنّ لبنان يحتمل مواجهات ومغامرات من هذا النوع، لا سيما انّ العنصر الذي سقطَ للحزب سقط في سوريا.
وبمعزل عن نيّات «حزب الله» بالرد من عدمه، فإنّ الرد، إن حصل، سيكون على طريقة رفع العتب كما حصل في الخريف الماضي في عملية «أفيفيم» التي انتهت من دون وقوع قتلى في الجيش الإسرائيلي نتيجة قرار مُسبق أكثر مما هو خطأ عسكري، لأنّ الحزب يريد رداً معنوياً لا عملياً كي لا يسجّل عليه بأنه لم يرد وانه يكتفي بالعبارة المَمجوجة «سنرد في الوقت والمكان المناسبين»، والسبب وراء محاذرته الانزلاق نحو الحرب مردّه إلى اختلاف الوضع الحالي عمّا كان عليه في تموز 2006، أقلّه في خمسة جوانب أساسية:
الجانب المحلي الذي يقف على عتبة الانهيار خلافاً لِما كان عليه سابقاً، وإذا كان الهدف من حرب تموز فَرملة اندفاعة 14 آذار وقلب الطاولة في الداخل، فإنّ ايّ حرب جديدة تُدخل لبنان في الفوضى مباشرة، لأنّ الوضع الذي يقف على «صوص ونقطة» لا يتحمّل حرباً إسرائيلية ستفاقم الأزمة المالية والغضب الشعبي، فضلاً عن انّ بيئته اكتوَت في الحرب السابقة ولا تريد حرباً جديدة، كما انّ البيئات الأخرى لن تسكت عن أي حرب محتملة.
الجانب السوري الذي شكّل سنداً للحزب في حربه السابقة لم يعد موجوداً اليوم، بل هناك «قانون قيصر»، ما يشكّل نقطة ضعف استراتيجية كبرى للحزب، حيث انّ عمقه السوري في حالة تصريف أعمال وفاقد للقرار.
الجانب الإيراني الذي كان في أوج مَدّه في العام 2006 مع تخلُّصه تباعاً من نظامَي طالبان وصدام، يعيش اليوم أسوأ حقبة منذ الثورة الإيرانية بفِعل الحصار المُحكم عليه وأزمته المالية وتفجير مفاعيله النووية، وطهران التي تجنّبت الرد على اغتيال ذراعها الأساسية قاسم سليماني لن تشجِّع الحزب على الحرب.
الجانب العربي الذي سارعَ إلى مساعدة لبنان في حرب تموز، لن يكون في وارد المساعدة هذه المرة، ما يعني تحميل «حزب الله» الشعب اللبناني ما لا قدرة له على تَحمّله في وقت باتت كلفة دعم المواد الأساسية متعذرة، فكيف بالحري تغطية كلفة حرب من هذا النوع وفي ظل مستشفيات على قاب قوسين أو أدنى من الإقفال.
الجانب الدولي الذي ضغط في الحرب السابقة لإنهاء الحرب، لن يتدخل مع تل أبيب هذه المرة، بخاصة انّ التصنيف الدولي للحزب بالمنظمة الإرهابية يتوسّع ويتمدّد، بل قد يعطي هذا المجتمع الضوء الأخضر لإسرائيل كي لا تتوقف قبل تحقيق الأهداف التي تريدها من هذه الحرب.
فلكل هذه الجوانب وغيرها لن يغامر «حزب الله» في حرب مع إسرائيل، وهذه الجوانب التي تؤشّر إلى مكامن خلل وضعف لدى الحزب هي من طبيعة استراتيجية مالياً وسورياً وإيرانياً وعربياً ودولياً، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الهدف إذاً من هذا الضَخ الإعلامي والتعبئة السياسية التي يتّبعها الحزب والتهويل بِرَد آتٍ حتماً إذا كان ليس بوارد الذهاب إلى مواجهة ربطاً بمكامن الخلل المذكورة أعلاه؟
وفي الإجابة يمكن التوقف أمام الأسباب التي تجعل «حزب الله» في موقع الرافض للحرب والساعي لتقديم العنوان الاشتباكي مع إسرائيل على سائر العناوين المطروحة، والتي يمكن اختصارها بثلاثة أساسية:
السبب الأول يتعلق ببيئته المتأثرة كسائر البيئات الأخرى بالأزمة المالية خلافاً للصورة التي يحاول الترويج لها، وهذه البيئة بدأت تتململ وتنتقده علناً، وشريحة واسعة منها تحمِّله مسؤولية الانهيار إن بفعل إهماله هذا الجانب وقد اعترف علناً بذلك، او نتيجة هندساته السياسية المحلية بدعم خيار العماد ميشال عون رئاسياً، وهندساته الخارجية التي أطبقت الخناق على هذه البيئة، وهندساته العسكرية بقتاله في سوريا التي انتهت إلى جعل القرار بيد موسكو لا طهران.
ولأنّ أولوية الحزب هي بيئته التي تشكل مصدر قوته، ولأنه يراهن بأنّ العنوان الإسرائيلي هو الوحيد الكفيل بإعادة شَد عصبها وتعبئتها وتوحيدها حول خياراته، فإنّ من مصلحته التذكير بدوره على هذا المستوى من خلال عملية تذكيرية او شحن سياسي، وذلك في كل مرة يرى فيها تراخياً داخل بيئته او حاجة لحَرف الأنظار وطنياً عن ملفات محددة.
السبب الثاني يتعلق بالمحكمة الدولية التي ستصدر حكمها في 7 آب المقبل، ويرجّح ان يُرَحِّل الحزب عمليته التذكيرية إلى مطلع الشهر المقبل من أجل حرف الأنظار عن حكم المحكمة وتسليط الضوء مجدداً على المخاطر الإسرائيلية، وإسقاط ايّ بحث في ترسيم الحدود، وبين احتمال رد الحزب ومن ثم احتمالات الرد على الرد يطغى العامل الاشتباكي مع إسرائيل على سائر العناوين الأخرى.
السبب الثالث يرتبط بالأزمة المالية التي لا تشكل عاملاً ضاغطاً عليه حصراً من الباب المعيشي، إنما من باب تحوّل هذه الأزمة المتدحرجة في شتى القطاعات والمجالات إلى عامل ضغط سياسي يومي ومتواصل من خلال تحميله مسؤولية فشل الحكومة واستطراداً العهد، فضلاً عن غياب اي مبادرات او حلول في الأفق، ولأنّ هدفه شراء الوقت حتى الانتخابات الأميركية، فإنّ الهروب إلى الأمام من خلال نقل التركيز من الأزمة المالية إلى التحشيد بينه وبين إسرائيل يبقى الخيار الأنسب.
ولكن حسابات «حزب الله» ستبوء هذه المرة بالفشل، ليس من زاوية الحرب التي لا يريدها الحزب ولا تريدها إسرائيل ايضاً تجنّباً لدفع اي كلفة بشرية او مادية على حزب تعتبره في إعلامها محاصراً من كل الجهات، إنما لأنّ الجوع أقوى بكثير من سلاح أيديولوجي فقدَ صلاحيته، والشعار الذي رفعه طويلاً هو وغيره «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، أدّى بنتائجه العملية الكارثية إلى شعار آخر فرض نفسه بقوة على كل الشعارات الأيديولوجية «لا صوت يعلو فوق صوت الجوع». وبالتالي، سياسة الهروب إلى الأمام لم تعد صالحة، وما هو صالح فقط الإقدام على إصلاحات فورية تُعيد «ما لقيصر لقيصر»، أي ما للدولة للدولة.