Site icon IMLebanon

إنهم لا يشبهوننا!

كتبت سوسن الأبطح في صحيفة الشرق الأوسط: 

الشبان اللبنانيون متدينون كما عائلاتهم، لكنهم بعد المعاناة المريرة من النظام الطائفي باتوا في غالبيتهم الساحقة، على قناعة بأن الدين يجب أن يبقى مسألة شخصية. وهؤلاء يؤكدون أن انتماءهم الديني والطائفي لا يؤثر إلا قليلاً في سلوكهم اليومي، حتى في خياراتهم السياسية. قد تبدو الإجابات غريبة في مجتمع لا يزال يرى في الطائفة ميزاناً ومقياساً، غير أن الشقة تكبر بين جيلين، أحدهما دخل الحرب الأهلية وخرج منها مهزوماً منهكاً، وآخر ينظر إلى تجربة الآباء بعين النقد الجارح، والعتب الحارق. هل حان وقت التوبة عن الطائفية؟ لا يزال الوقت مبكراً لمعرفة حاسمة بما ستذهب إليه الأمزجة اليانعة، وما ستكون خلاصاتها النهائية. الاستطلاع الذي نشر بداية العام الحالي، بعد أشهر من الانتفاضة والمظاهرات، وبني على دراسة أجريت بمشاركة شبان من مختلف المناطق والمذاهب، ليس بينهم إلا 11 في المائة يقولون إن انتماءهم الطائفي يؤثر إلى حد كبير في خياراتهم السياسية. أكثر من ذلك، ما يقارب 90 في المائة لا ينخرطون حتى في جمعية مدنية، ولا يوجد غير 8 في المائة ينتسبون رسمياً إلى حزب سياسي. ونصف هؤلاء، إنما انخرطوا بفعل التأثير العائلي، لا الخيار الشخصي الحرّ. ثمة رغبة أيضاً في إلزام الأحزاب الطائفية، بفتح أبواب الانتساب لمختلف الطوائف، ولو بنسب محددة لكسر صبغتها الدينية الفاقعة.

هذا لا يعني أن لبنان سيتحول إلى بلد «علماني». فهذه الكلمة لا تزال سيئة السمعة، والشبان يفضلون عليها مصطلح «دولة مدنية» تحيّد الدين عن السياسة، وتحمي الوظائف والمراتب من المحاصصة والتناوش والفساد. والظريف فيما جاء بالاستطلاع أن الشبان ينادون بقانون انتخاب جديد نسبي من خارج القيد الطائفي، يعتبر البلد دائرة واحدة.

هل سيتحول لبنان في ظل هذه الأفكار خلال 10 سنوات إلى سويسرا، طالما أن شباننا ينبذون المنطق الفئوي، ويدركون عميقاً أنه سبب الأزمات، ومولّد الحروب، وهادم الاقتصادات، ومهجّر الكفاءات، وقاتل الأحلام؟ كل الاحتمالات مفتوحة. فالأصل في الدول هو ما تختاره الشعوب. وأياً تكن ديكتاتورية الأنظمة يبقى الناس هم المحرك، وحين يريدون شيئاً، ويمتلكون إرادة الفعل، فلا بد هم قادرون، ولو استغرقهم ذلك وقتاً وجهداً وربما تضحيات جساماً.

الأولوية بالنسبة للجيل الجديد هي الحياة الكريمة، واليسر، وعلى رأس مطالبهم استعادة الأموال العامة المنهوبة، يأتي هذا قبل الانتخابات، وشكل الحكومة أو أي مطلب سياسي آخر. فهم ليسوا مسيسين بالمعنى التقليدي، وربما هم يتفقون على ما لا يريدون، أكثر مما بمقدورهم أن يتوافقوا على برنامج أو مشروع جامع.

فنصف الشبان لا يدعمون جهة سياسية بعينها ولو من باب التشجيع، وهم يؤمنون بأن الحل بإسقاط السياسيين جميعهم من دون التمييز بينهم، وهؤلاء يشكلون 89 في المائة من المستطلعين. لكن أقل من ربع الشبان هم من اطلعوا ولو اطلاعاً على الدستور اللبناني. وأجتهد، من ناحيتي وأقول، أقل منهم ربما هم من قرأوا التاريخ الدامي لوطنهم، أو يعرفون مكامن الأخطاء التي وقع فيها الجيل الذي سبقهم. فئة قليلة أيضاً، تعرف مأساة الجغرافيا اللبنانية بتفاصيلها، أو ورطات بلادهم في حروب الإقليم، أو يتابع عن كثب التأثيرات الجيوسياسية على مسار يوميات وطنهم.

«الميكروسكوبية» في النظرة إلى الأمور، قد تكون ناجعة بحدود. رؤية المشهد العام ضرورة لفهم أعمق. المتابعة مضنية، والمعرفة موجعة. جيل الآباء بالغ في ربط لبنان بمحيطه، ورّط بلده بما لا طاقة له به. الجيل اليانع يتطرف عكساً، حين لا يرى سوى لبنانه. الوسطية ليست في متناول كثيرين. الموازنة بين المخاطر والإمكانات، تحتاج حكمة المتأملين الصابرين.

التمنيات حاضرة، والأحلام مجنحة، والهجرة بين الخريجين تتصاعد هي الأخرى. ليس في صالح التغيير أن يتحول لبنان إلى مأوى للمسنين، كما أن إطالة زمن المعاناة قصداً، لبثّ اليأس في النفوس، والتقاعس في الإرادات يلعب دوراً محبطاً.

لم تكن المناهج المبتورة عاملاً مساعداً في تنشئة جيل بمقدوره بلورة بديل عما يريد الانقلاب عليه، هذا ترك انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) مبتورة. اختزال العمل السياسي بأحزاب طائفية شوّه النظرة إلى دور الأحزاب، وحال دون السعي لتشكيل أحزاب جديدة، على اعتبار أن كل حزب هو بحد ذاته نكسة ولعنة. ما ينقص الشباب اليوم، هو استكمال مهمتهم، برسم رؤية جامعة. الأمر يحتاج كثيراً من الخيال، والقليل من التقليد، وتفادي الوقوع في فخّ الأخطاء المريرة السابقة، والخروج من الثأرية إلى وطنية رحبة، تسامحية، قادرة على احتضان مخاوف الجميع ووساوس جيل الآباء القابع في ملاجئ الملل والنحل.

أثناء إجرائي مؤخراً، لتحقيقات مع الشباب، تحدثوا جميعهم تقريباً، عن افتقادهم لقدوة، لنموذج، لبوصلة من أي نوع. هم ولدوا في فترة تحولات عالمية كبرى، كل شيء فيها يتغير، والوطن يستغيث، حتى إنه لا يستطيع أن يكون، ولو خيمة. كبروا بينما كانت الصحف تموت، وهي بالنسبة لهم مهمة على عكس ما يتخيل البعض، والنخب تتداعى، والحكاّم يبغون، والمدارس تتخلى عن دورها. كبروا فإذا بهم من دون مرجعية. يشتكون من انعدام الثقة بكل ما حولهم. إعلام لا يصدقهم، سياسيون يخادعونهم، أساتذة يكررون عليهم معلومات كالكلمات المتقاطعة، لا تسعفهم في رسم هوية، وآباء يتألمون، لا يملكون لهم معونة. ليس شبابنا في وضع يحسدون عليه. أحلامهم تسبقهم، وواقعهم – نصلّي – كي لا يخذلهم.