كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
عندما يقول النائب جبران باسيل انّ «كل القوى السياسية من دون استثناء تتحدث مع «حزب الله» ولو من تحت الطاولة»، وانه حتى «القوات اللبنانية» تفعل ذلك، وأنا أعرف ما أقول»، فإنه كمَن يريد ان يرفع عن نفسه تهمة التحدث إلى الحزب منفرداً وتعميمها على الآخرين بغية التخفيف من وطأتها وتداعياتها عليه على طريقة «من منكم بلا خطيئة».
تدلّ إجابة النائب باسيل على انه مُربك بعلاقته مع «حزب الله» وإلّا لكان اعتمد إجابة أخرى تشيد بالتحالف الاستراتيجي بينهما الذي يبدأ من «المقاومة التي تشكّل ضرورة طالما إسرائيل على حدودنا»، ولا ينتهي بالمساهمة في انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، ومرد هذا الإرباك يعود للحصار الدولي والعربي غير المسبوق على الحزب والذي تمدّد ليشمل الدولة في لبنان، كما يعود لخشيته من عقوبات قد تطاله في حال جاهَر كثيراً بتحالف «مار مخايل».
ولا يريد باسيل طبعاً ان يفك تحالفه مع «حزب الله» تجنّباً لأي فيتو يبدِّد فرصه الرئاسية، ولكنه يريد ان يتجنّب في الوقت نفسه أي فيتو دولي عليه بسبب هذا التحالف، علماً انّ الفيتو موجود ولو بشكل غير معلن بدليل العلاقة العربية والغربية الفاترة جداً مع رئيس الجمهورية، إلا انه يفضِّل عدم الذهاب بعيداً في هذه المرحلة تحديداً، والتي يكثر فيها الحديث عن تحولات كبرى في المنطقة عشيّة الانتخابات الأميركية أو بعدها. وبعد أن قطع باسيل أوصال العلاقة مع «القوات» و«المستقبل» و«الإشتراكي» فإنه لا يرغب في تَمدّد سياسة القطع لتشمل «حزب الله» من جهة، والمجتمعين الدولي والعربي من جهة أخرى، وهو يحاول الموازنة قدر الإمكان تخفيفاً للخسائر الفادحة التي مُني بها بدءاً من الثورة التي قام جزءاً أساسياً منها ضده، وصولاً إلى الانهيار المالي الذي أصبح مرادفاً للعهد ولم ينته فصولاً بعد، ولا بل من الاستحالة بمكان ان يخرج منه هذا العهد سالماً مُعافى، لأنه في حال تواصل الانهيار كما هو حاصل منذ أشهر، فإنّ البلاد، وليس فقط الرئاسات والمؤسسات، ستكون أمام مصير صعب.
وأيّ متابع لمواقف باسيل يرى انّ الانهيار والثورة أفقداه خطابه المرتكز على التقليد أو الثقافة العونية التي تفتح المواجهات الحادة يميناً ويساراً ظنّاً منها انّ هذا التوجه او الأسلوب مرغوب من قبل الناس، ولا شك انه قد فعل فعله سابقاً، ويكفي استذكار المواجهات المفتوحة ومن دون سقوف وعلى مراحل مختلفة مع «القوات» و«المستقبل» و«الإشتراكي»، ولكن ما كان يصحّ قبل رئاسة الجمهورية لم يعد يصحّ بعدها، والتي تستدعي الانتقال من الدور الشعبوي إلى الدور المؤسساتي، إنما إصرار باسيل على الأسلوب نفسه أدى إلى ضرب «المومنتم» المحلي لانتخاب عون الذي كان يشكّل فرصة لو أُحسن التعامل معه، وذلك تماماً كما تمّ ضرب «المومنتم» الدولي والإقليمي لاتفاق الطائف، ويبدو انّ تفويت الفرَص على البلد هو اختصاص هذا الفريق، وبالتالي كل هذا المسار أدى إلى الانهيار، فأصبح باسيل في حيرة من أمره، فلا هو قادر ان يكون أميناً للتوجّه العوني التاريخي في مواصلة سياسة المواجهات نفسها، ولا هو قادر على انتهاج أسلوب جديد مغاير تماماً للحالي، وهذا ما يفسّر حالة الإرباك التي يعيشها: فالتسخين السياسي يؤدي إلى الانهيار الشامل بما ينعكس سلباً على العهد، والتبريد يرتد سلباً على التيار الذي اعتاد على التسخين، وما بين التسخين والتبريد يواجه أزمة مالية غير قابلة للحل، وشبه حصار داخلي وخارجي.
ولا يجد للهروب من هذا الواقع سوى التبرّؤ من الانهيار وتحميله لمن تولى المسؤولية في العقود الثلاثة الأخيرة، كما التبرؤ من حيازته للأكثرية، هذه الأكثرية التي ظلت في متناوله منذ العام 2011 إلى ان انتخب عون رئيساً، فتحوّلت إلى أكثرية وزارية ونيابية مع رئيسي الجمهورية ومجلس نواب قبل ان ينضَمّ رئيس الحكومة إليهما مؤخراً، وعدا عن انّ الأكثرية معه وبوضوح شديد، فإنه لو اتُبع النهج المطلوب منذ وصول عون إلى بعبدا لتلافى لبنان الانهيار، ولكن البلاد قِيدت من دون خطة مالية إنقاذية وخطة إصلاحية، والخطة الوحيدة التي قيدت على أساسها هي إبقاء مفاتيح القصر الجمهوري بيد هذا الفريق، فوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه.
ولكونه لا يستطيع الغمز من «القوات» بتحميلها مسؤولية العقود الثلاثة الأخيرة، ذهب باتجاه التصويب على مبدئيتها السياسية أمام الرأي العام بكلامه عن «علاقة تربطها بـ»حزب الله» تحت الطاولة»، والهدف من ذلك: انتزاع ورقة مهمة من يد «القوات» تتعلّق بصورتها، لا سيما انّ كل الإحصائيات تتحدث عن تقدمها على التيار، وبالتالي يريد فرملة هذا التقدُّم عن طريق تصويرها خلافاً لحقيقتها؛ ويريد ان يرفع عن نفسه صورة الواقعية السياسية التي تتحالف وتتخاصم لأهداف سلطوية مقابل صورة «القوات» المبدئية التي لا تتحالف إلّا على أسس وطنية؛ وتوجيه رسالة إلى واشنطن والرياض على قاعدة «كلنا في لبنان في الهوا سوا»، اي انّ تمييز الدكتور سمير جعجع عن غيره لا يصحّ.
ومع عدم قدرته على إثبات «أنا أعرف ما أقول» عندما تَحدّته «القوات»، لأن لا تواصل بين «القوات» و«حزب الله» خارج إطار المؤسسات الدستورية، فيما لو وجد هذا التواصل كان الحزب أوّل من أنقذ باسيل وحفظَ ماء وجهه من خلال إثبات ما يقوله، بخاصة انّ «القوات» هي في موقع الخصومة الاستراتيجية مع الحزب، وباسيل هو في موقع الحليف الاستراتيجي للحزب، ولو وجدت أي محاولة من هذا النوع من قبل «القوات» لكان من مصلحة الحزب دعم حليفه من أجل ان يحافظ على حد أدنى من صدقية وشعبية، لا سيما انه بقدر ما يضعف باسيل بقدر ما يضعف الحزب وبقدر ما تقوى «القوات»، ولأن من غير مصلحة الحزب ان يواصل باسيل تراجعه، وأن تواصل «القوات» تقدّمها، فإنه من المنطقي والبديهي ان يقدِّم الحزب الوقائع المثبتة التي تعزز موقف حليفه.
ومعلوم انّ الحزب لا يقصِّر في دعم حليفه في سياق الخدمات المتبادلة، وهذا ما حصل مثلاً مع إلزام رئيس الحكومة ومجلس الوزراء بالتراجع عن قرار سابق له بإعادة تثبيت «سلعاتا» كأولوية موازية لمعملي الزهراني ودير عمار، وذلك على أثر توجيه باسيل رسائل عدة للحزب بأنّ الجوع والمقاومة لا يلتقيان، كما تلقّى باسيل موقفاً داعماً من سد بسري في توقيت الأولوية فيه لسد جوع الناس وليس لسدود تعتريها ما تعتريها وتعتبر في هذا الظرف من الكماليات، وهذا الموقف الداعم للحزب جاء كردّ رِجل على موقف باسيل من الحياد الذي أغرقه بلائحة أهداف أقلّها انتهاء النزاع العربي-الإسرائيلي.
والعبرة من ذلك انّ «حزب الله» الذي يختلف مع «القوات» على فكرة لبنان ودوره، والذي يدرك انّ الأوضاع في البلد أدت إلى إضعاف حليفه وتقوية خصمه، لن يتردد في إسناده بموقف داعم يؤدي إلى إحراج «القوات» وإضعافها، وبالتالي سكوت الحزب يدين حليفه، وهذا السكوت سببه انه هو الطرف المعني ولا يريد لا تكذيب باسيل ولا اعتماد كذبته، خصوصاً انّ القاصي يعرف والداني ايضاً انّ عدم الرغبة في التواصل والحوار خارج المؤسسات هي مشتركة بين الحزب و»القوات» كلٌ لأسبابه، وفي طليعتها انّ حواراً من هذا النوع لا طائل منه في ظل الخلاف على السلاح الذي لن يسلِّمه الحزب، والخلاف على الدور الذي لن يتراجع عنه الحزب، والخلاف على أولوية لبنان التي لا تدخل في حسابات الحزب، فلا أمل يرجى من حوار من هذا النوع يتطلّب تحولات إقليمية وحدها القادرة على حلّ الإشكالية اللبنانية.
والأساس في كل هذا المشهد انّ التواصل مع «حزب الله» تحوّل على لسان حليفه إلى تهمة، بما يعكس نظرة باسيل إلى الحزب وما تحمله من رسالة تمنين له على خلفية أنّ للتواصل معه كلفة وثمناً، والأساس أيضاً انّ حقبة المواقف الرمادية شارفت على النهاية ولا مكان فيها للمواقف الملتبسة، فإمّا أبيض وإمّا أسود، فلا مكان لمَن هو مع الحياد وضده، ومع المقاومة في الداخل وضدها في الخارج، ومع السيادة في المواقف وعكسها في الممارسة، ومع الإصلاح في المزايدات وصفر في التطبيق…