كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
يا الله… يا الله… يا الله… وكأن كل لبنان، من أقصاه الى أقصاه، هتف بهاتين الكلمتين في لحظة واحدة، في أقل من لحظة واحدة، في أقل من حركة خفقان القلب وسرعة الصوت، ووجوههم في اتجاه واحد، نحو السماء، نحو الله، نحو الله وحده، ولا أحد غير الله…
وما دام لا أحد سمع، أو قد يسمع، غير الله سألوا بذهول، برعبٍ هائل، بقلق: ماذا حصل؟ ماذا حصل يا الله؟ وسمعوا أصواتاً تقول: إنها مفرقعات، إنها مفرقعات… لكنهم أداروا رؤوسهم ولم يبالوا بأجوبة “متسرعة” لن تبدد قساوة المشهد، قساوة ما عاشوه، قساوة تلك “التكة” التي صدحت بانفجار دامٍ دامٍ عصر يوم أسود!
جثثٌ مرمية على الأرض، ورائحة الدم قوية، اقوى حتى من روائح كل الحرائق في الجوار. مشاهد مرعبة. مشاهد جعلتنا نتذكر ما سُرد عن “طوفان نوح”. ثمة امرأة تخفق آخر خفقات العمر. ثمة أطفال كانوا يحلمون قبل حين. ثمة نساء ورجال وشباب وشابات لم يعوا بعد، حتى اللحظة، ما حصل. يا الله. الشباب، أصحاب النخوة ينغلون. ثمة قفازات وكمامات على الأرض. الأولويات تبدلت وما عادت كورونا “البعبع” عند اللبنانيين، الطيبين، الذين كُتب عليهم أن يعيشوا الجلجلة على هذه الأرض.
“يلعن أبو هالدولة”. صوتٌ من تحت الركام. مشاهد لا تعبّر عنها أي كلمات. ثمة أجساد تتلوى. ثمة عيون جاحظة، لا تتحرك، وهناك عيون تائهة. ثمة دماء كثيرة كثيرة. كل الأطباء التحقوا بالمستشفيات. يا له من عصف سببته “المفرقعات”. مفرقعات؟ هذا ما اخبرونا إياه وعادوا وسموها “مواد شديدة الإشتعال”.
“بدنا دم. بدنا دم”… “أرجوكم أرجوكم نقطة دم”… أصوات الإستغاثة تكررت. والدة تغمر ابنتها بين ذراعيها، تعصرها نحو قلبها وتبكي. شباب اطفاء بيروت يبكون على “رفاق”. فاتورة الضحايا، فاتورة من “فلوا” كثيرة. ما هذه المفرقعات التي جعلت من بيروت مدينة منكوبة؟ هل بيروت مدينة مباركة أم ملعونة؟ ألا تليق ببيروت الخير والحب والثقافة والأدب والتاريخ والحقوق، الحياة؟ بيروت التي “تزلزلت” مرات ومرات وعادت وقامت كما “طير الفينيق” تعبت أكثر بكثير مما تتصورون. سرايا بيروت تأثرت. بيت الوسط تأثر. مطار رفيق الحريري الدولي تأثر. مستشفى الكرنتينا انقلبت “فوقاني تحتاني”. مبنى مؤسسة كهرباء لبنان أصبح هيكلاً بلا حياة…
بيروت يا بيروت… اللبنانيون، المدنيون، راحوا يداوون جروح بعضهم بعضاً بنخوة قلّ نظيرها. كم يستحق هؤلاء أن يعيشوا بسلام؟ العنبر رقم 12 كان هنا. مرفأ بيروت كان هنا. تحذيرات من تأثير النيترات، الذي قيل أنه تسبب بالإنفجار، وتشبع به الهواء، على البشر والحجر. تُرى، هل يحق لأيٍّ كان أن يحتفظ بهكذا مواد خطيرة، بهذه الكميات، في عنبر؟
هرجٌ ومرج وتدافع وبكاء وعويل ومركبات إستوت في الأرض وغضب هائل. فليس سهلاً أبداً ان يخسر الإنسان كل ما يملك، من أحباب وأملاك، ويُصبح بلا شيء، ولا شيء، لسببٍ فيه كثير من الإستهتار. الأطقم الطبية تعالج المصابين، المدمّمين، حتى في مواقف السيارات المجاورة. مصابون يصلون في شراشف، على كراسي، أو حتى ملفوفين بسجاد. الأمين العام لـ”حزب الكتائب” نزار نجاريان توفي. هو أول إسم أعلن. المتوفون كثيرون كثيرون. فاقت الأعداد كل قدرات المستشفيات في بيروت. الثياب مشلعة. الثياب مبللة بدماء نقية. كمال حايك مصاب. طارق المرعبي مصاب… وجورج وميرنا وريما وسليم ورولا وجيسي وزوزو وبسكال وهادي… أصيبوا بذاك الانفجار الغريب العجيب… الأرض تحولت الى أسرة. الكلّ دعا الكلّ للتبرع بالدماء. بيروت منكوبة. البيارتة في ذهول. اللبنانيون يتألمون. فما حصل لم يكن لا في البال ولا في الخاطر. الظلمة إشتدت. والنجوم ليست قادرة، مع سدول العتمة، على الإضاءة أكثر الى عمق المأساة وحجمها.
أزيز الزجاج يشتدّ تحت دعسات البشر المذعورين. قتيلة هنا. قتيل هناك. وواحدة متوفاة هنالك في حال يرثى لها. مشاهد تتكرر. توترٌ هائل وأحاسيس جمة ومشاعر هائلة. هو الموت أيقظ الكثيرين الى حياة فيها من القسوة الكثير.
أيها “الكورونا” ألم يحن لك أن تستسلم على أبواب اللبنانيين؟ غداً (اليوم) مع انبلاج نور الصباح، سنرى بيروت غير بيروت، بيروت لا نعرفها… وستنقشع مآسٍ إضافية وسيستفيق كثيرون من ذهولهم… وحينها سيكون بعد الكلام الكثير ألم كثير وغضب كثير. اللبنانيون، يا عالم، يستحقون الحياة لكن هناك من لا يريد لهم إلا الإختيار بين الموت والموت!
ماذا حصل البارحة؟ أجيبوا بدقة، بلا تلفيق والتباس، ولا تراهنوا على أننا سننسى. هذه المرة لن ننسى.