كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:
ورد في «المخطّط التوجيهي لمرفأ بيروت 2037» الذي أعدّته شركة «خطيب وعلمي» لتبرير هدم الحوض الرابع في المرفأ تمهيداً لتوسيع محطة الحاويات، أنه «مرفأ الضرورة». لم توضح الشركة أو الهيئة المؤقتة لإدارة المرفأ، ما المقصود بهذه العبارة، إلا أنه يُفهم منها أنه مرفأ لا يمكن الاستغناء عنه. لعلّ هذه العبارة وردت في سياق تبرير تطوير مرفأ بيروت وإقصاء تطوير مرفأ طرابلس الأقرب إلى سوريا جغرافياً، والذي يفترض أن يرتبط معها بواسطة شبكة نقل متطوّرة أيضاً. لكن رغبة قوى السلطة عبر ممثّليها في الهيئة المؤقتة، كانت أقوى في اتجاه تطوير مرفأ بيروت، لكونه يخدم «بشكل خاص منطقة جبل لبنان التي تمثّل القوّة الصناعية والتجارية في لبنان، والتي تستهلك 71% من الشحنات المستوردة»، كما جاء في الخطّة. فهذا المرفأ يتعامل مع 82% من واردات لبنان وصادراته، والتي بلغت في عام 2016 نحو 11 مليون طن من البضائع، وهو يستوعب 98% من جميع الحاويات في لبنان.
كان الهدف من كل هذه الإحصاءات تبرير مسألة ردم الحوض الرابع وتوسيع محطة الحاويات في مرفأ بيروت. غير أنها في العمق كانت تُخفي تركّزاً اقتصادياً واجتماعياً هائلاً في بيروت وجبل لبنان لتتناسب مع نسبة مرتفعة من السكان في محافظتين تستحوذان على غالبية الوظائف والأعمال. كذلك يخفي هذا التركّز حقيقة بشعة عن قصّ الأطراف (القرى والأرياف) واجتثاث من فيها، وتحويلهم إلى آلات قليلة الإنتاج في خدمة نظام استهلاكي بشع أو تحويلهم إلى مغتربين وظيفتهم توريد الدولارات إلى لبنان. عملياً، هذا النظام حوّل اللبنانيين إلى عمالة من أجل الاستهلاك المموّل بسعر صرف دولار ثابت. والدولارات التي ندفعها ثمناً لمستورداتنا، نأتي بها عبر زيادة الفوائد لاستقطاب أموال المغتربين والعرب والأجانب.
«مرفأ الضرورة» يمثّل هذا النموذج الاقتصادي الذي يغرق اليوم في إفلاسه. غير أنه لم يكن ضرورياً مسح المرفأ بانفجار يعادل قنبلة نووية تكتيكية لإنهاء هذه الوظيفة الاقتصادية أو تعديل غاياتها. كان يمكن تقليص حجم أعماله وتحويل بعضها إلى مرفأ طرابلس الذي تطوّر كثيراً خلال السنوات الماضية، أو من خلال بناء مرفأ في الناقورة، أو أي حلول أخرى ملائمة. لكن لا. فتقليص الحصّة السوقية لبيروت وجبل لبنان هو تقليص للنفوذ المذهبي والسياسي والمافيوي فيهما.
الفساد أنتج دماراً هائلاً وألحق أضراراً شبه شاملة بالبنية التحتية في مرفأ بيروت. لذا بات أكيداً أنه في مرحلة النهوض، إذا اتفق عليها، سينتقل الضغط إلى مرفأ طرابلس. وسيلعب هذا الأخير دوراً رئيسياً كمعبر بحري للبضائع والسلع المستوردة. فما هي قدرته الاستيعابية القصوى؟ وضمن أي اختصاصات؟ وهل هو مقبول من النموذج الاقتصادي المفلس (صحيح أنه مفلس ولكنه لا يزال الحاكم بكل مستوياته من السياسيين إلى الأحزاب ورجال الأعمال والموظفين والسماسرة وسواهم)؟
ينقسم مرفأ طرابلس إلى المرفأ القديم، ومحطة الحاويات. المرفأ القديم متخصّص إلى حدّ كبير بالبضائع العامة (التي كان مرفأ بيروت يريد الاستغناء عنها لمصلحة تعزيز التعامل بالحاويات) مثل الحديد والحبوب والسيارات والخردة وسواها من البضائع التي لا تأتي عبر الحاويات (كونتينر). أما محطّة الحاويات، «فهي قادرة على استيعاب نحو 400 ألف حاوية سنوياً» بحسب رئيس مجلس إدارة شركة غالفتينر المشغّلة للمحطة، فادي عماطوري. هو يعتقد أن مرفأ طرابلس يمكنه الحلول بشكل كامل محلّ مرفأ بيروت «لأن عدد الحاويات التي كانت تأتي إلى مرفأ بيروت والمعدّة للاستهلاك المحلي، أي إنها لم تكن عمليات مرور (ترانسشيبمنت)، لم يكن عددها يزيد على 400 ألف حاوية. في عزّ وجود النازحين السوريين في لبنان وارتفاع مستويات الاستهلاك المحليّة، بلغ عدد الحاويات الآتية إلى الاقتصاد اللبناني مباشرة نحو 700 ألف حاوية. اليوم العدد أقل من 400 ألف حاوية».
يستغرق عماطوري الكثير من الوقت في تعداد ميزات مرفأ طرابلس لجهة عدد الرافعات وقدرتها وسرعتها وكلفة المرفأ الأقل بنحو 130 دولاراً لكل حاوية مقارنة مع الأكلاف التي كانت معتمدة في مرفأ بيروت، فضلاً عن وجود المنطقة الاقتصادية الحرّة غير المستثمرة، والتي تبلغ مساحتها 420 ألف متر مربع «يمكن استعمالها إذا اضطررنا»… إلا أنه رغم ذلك، لا يوجد اقتناع تام بأن مرفأ طرابلس قادر على استيعاب كل الحركة، فضلاً عن احتمال ظهور حساسيات متصلة بمناطق النفوذ التي نفخت مرفأ بيروت على حساب مرفأ طرابلس. فقد بدأت تظهر، منذ الآن، تقديرات بأن شبكة النقل التي تخدم البضائع الآتية عبر مرفأ طرابلس قد لا تكون مستدامة، إذ إنه في ظل النظام المذهبي والطائفي في لبنان، سيعدّ ذلك امتيازاً لجهة على حساب جهات ثانية. هذا بالتحديد ما كان مرفأ بيروت يمثّله، أي نقطة التقاء مصالح الجهات المذهبية والسياسية والمافيوية.
رغم ذلك، يشير «المخطّط التوجيهي لمرفأ بيروت 2037» إلى أن مرفأ طرابلس، وفي أحسن السيناريوات، لن يكون قادراً على تخطّي حصّة سوقية مخصصة للاقتصاد اللبناني تفوق 25%، إذا كان التوقعات السوقية إيجابية كثيراً، «إلا أن لديه قدرات استيعابية لنحو 1.5 مليون حاوية سنوياً في عام 2037، أي ما يوازي قدرات مرفأ بيروت».
مرفأ طرابلس لديه إمكانات وقدرات مستقبلية للحلول محل مرفأ بيروت
هذا يعني أن هناك قدرات كامنة وواسعة لمرفأ طرابلس، لكن تحقيقها ليس فورياً. فمن الواضح أن تطوير هذه القدرات يتطلب وقتاً واستثمارات بالعملة الأجنبية ليسا متوافرين حالياً، لا لجهة ظروف خروج مرفأ بيروت من الخدمة، ولا لجهة أزمة الإفلاس التي يعاني منها البلد.
هذا الوضع يوجب أن يكون لدى لبنان خطّة احتياط. خطّة تعيده إلى امتداده الطبيعي مع سوريا، وتعيد له قدرته التصديرية. أصلاً لبنان وقّع في 2002 اتفاقيّتي تعاون مع سوريا، وبالتحديد بين مرفأ طرابلس ومرفأ طرطوس، وبين مرفأ بيروت ومرفأ اللاذقية. أي واحد من المرفأين السوريين سيكون قادراً على خدمة لبنان، إلا أن الأمر «يتطلب إجراءات استثنائية مع سوريا، لأن الأمر يتعلق باستعمال شبكة النقل السورية على طول الخطّ الفاصل بين الحدود السورية مع لبنان، وبين واحد من المرفأين في سوريا»، بحسب خبير رفض ذكر اسمه. هذا الأمر يتطلب انتظاماً في الإرساليات، وإجراءات واضحة ومتوافق عليها من الطرفين بأكلاف مقبولة. «هذا الأمر يمكن أن يكون موقتاً، لكنه أمر ضروري، لأن مرفأ طرابلس يجب ألا يكون الملاذ الوحيد للاقتصاد اللبناني. يجب أن نبقى قادرين على الاستيراد والتصدير، وأن تكون لدينا خيارات نمارسها في إطار مصالحنا»ّ على حدّ قوله.
هذه الصورة، وإن كان يوافق عليها بعض السياسيين الذين يصنّفون أنفسهم في حالة خصومة أو عداء مع سوريا، بوصفها صورة ضرورية للبقاء على قيد الحياة، إلا أنهم يعتقدون أنه «يجب أن نسأل الأميركيين. فإذا سمحوا لنا بالتعاطي مع النظام السوري، فسنقوم بذلك».
إذاً، مسائل كالتسييس والطوائف والمذاهب ستبقى عابرة لمصالح الاقتصاد اللبناني. هل ستبقى هذه المصالح قائمة في إطار إعمار مرفأ بيروت؟ هل يجب إعماره أصلاً؟ هل يجب أن يكون المرفأ في قلب العاصمة؟ هل يجب إبقاء المرفأ في بيروت ليخدم اقتصاد الريع وتركيز النشاط الاقتصادي في بيروت وجبل لبنان؟ ربما يكفي قطار واحد من طرابلس إلى الناقورة لنقل كل البضائع بسهولة وبسرعة. وربما تنفذ وصلات أخرى للقطار من طرابلس إلى العبودية، وأخرى من رياق إلى سرغايا.
10 مليارات دولار
يقدّر الخبير الاقتصادي شربل قرداحي أن تبلغ قيمة الخسائر نحو عشرة مليارات دولار، عبارة عن كلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية وبالمباني، إضافة إلى الخسائر البشرية وخسائر الشركات والأضرار التي أصابت ما تبقى من ثقة بالدورة الاقتصادية، نظراً إلى كون نحو ٧٠٪من التبادلات التجارية اللبنانية مع الخارج تمر عبر مرفأ بيروت.
يمكن المطار والموانئ الأخرى في البلاد أن تؤمن نحو ٤٠٪ من حجم البضائع التي تمر بمرفأ بيروت، كما يمكن لفتح الحدود مع سوريا أن يسهل نحو ٢٠٪ من التبادلات في مرحلة أولى. هذا يعني أن ما لا يقل عن خمسة مليارات دولار من الواردات لن تجد طريقها إلى البلاد، وأن ملياري دولار أخرى من الصادرات ستبقى في الداخل مرحلياً. يمثل هذا الأمر خسارة بنحو ٤ مليارات دولار ، أو ١٥٪ من الناتج المحلي الإجمالي لعام ٢٠٢٠.
ويعتقد قرداحي أن الحركة ستعود تدريجياً إلى المرفأ في السنوات المقبلة، لكنه لن يعود كما كان، في هذه السنوات الخمس المقبلة.