كتبت غادة حلاوي في صحيفة “نداء الوطن”:
لم يمرّ وقت طويل، بعد سماع دوي انفجارين في مختلف أرجاء لبنان، قبل أن تنفي جهات أمنية الترجيحات الأولى التي خرجت إلى الإعلام: انفجار في بيت الوسط، أو قصف طائرات إسرائيلية. سريعاً أعلن عن احتراق العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، وقيل بداية إنه كان يحتوي على مفرقعات نارية في داخله. الرواية التي “سخر” منها اللواء عباس ابراهيم كان هدفها الأمني وضع حد للشائعات وتطمين الناس الى أن الأصوات التي سمعوها عبارة عن إنفجار مفرقعات، وفق ما أفاد به جهاز أمن المرفأ الجهات الأمنية.
والمعروف أن هذا العنبر كانت تخزّن فيه سابقاً كميات من المفرقعات المصادرة، ولم تكن كل الجهات الامنية تعلم بعد بوجود مادة الأمونيوم. كان الأمر مفاجئاً كما هول المصاب. عُرف السبب وساد العجب. مواد شديدة الخطورة مخزّنة في المرفأ تعود الى العام 2013، فمن هي الجهات التي علمت بها وتهاونت في طريقة التعامل معها؟ من أمر بتخزينها؟ وهل المسؤولية هنا عسكرية، أم قضائية، أم ادارية؟ يتوزع التحقيق على امرين: الأول يتعلق بالجهة التي علمت بوجود المواد الخطيرة كل تلك المدة ولم تتحرك، والثاني بالسؤال عن الجهة التي أعطت الامر بالشروع بتنفيذ الاشغال لإصلاح فجوة ليست مستجدة، إرتأت سدها اليوم لسبب ما. بموجب قرار حكومي أوكلت مهمة التحقيق الى الشرطة العسكرية التي باشرت تحقيقاتها.
وكخطوة أولية أوقفت شعبة المعلومات العمّال الثلاثة الذين كانوا يقومون بعمليات تلحيم على مقربة من العنبر حيث المواد الخطرة، فيما كان يفترض أن يتم توقيفهم من قبل الجيش. ثم توالت التوقيفات واتخذ قرار بمنع سفر كل المعنيين بالموضوع. لن يكون هذا التحقيق سهلاً. أربعة أجهزة أساسية مسؤولة عن أمن المرفأ صارت تعمل على إعداد التقارير، بعضها بحق البعض الآخر، بدل ان تتعاون في ما بينها. أما المتهمون فكثر وإن بدرجات متفاوتة، لنكون امام خلطة مؤلفة من كلّ من قيادة الجيش ومديرية المخابرات والأمن العام والجمارك بفرعيه وأمن الدولة والمعلومات وقوى الامن الداخلي، وعلى المستوى الإداري هناك وزارات الاشغال والاقتصاد والسياحة والداخلية، هذا فضلاً عن دور محافظ بيروت واللجنة الموقتة لادارة مرفأ بيروت، ومدير عام المرفأ وإدارة الجمارك والسلطة القضائية المدنية والعسكرية، فعن أي مسؤولية يتحدثون؟ وكيف سيتم التعرف الى من أعطى الأمر بالتلحيم الذي تسبب بالكارثة؟ وعن أي مسؤولية نتحدّث ونحن امام مواد يزيد وزنها على 2750 طناً من المواد شديدة الإنفجار كانت مزروعة بين بيوت كنا نظنها آمنة للمواطنين العزل، وكان المسؤولون أبلغوا الجهات المعنية بوجود المواد وخطرها!
هذا ما تؤكده الكتب والمطالعات التي تطايرت أمس عبر مواقع التواصل الإجتماعي من قبل أمن الدولة وإدارة المرفأ والجمارك وغيرها، وكأن الجميع حاول غسل يده من دم هذا الصدّيق. يا لهول النكبة وجبروتهم… وجبنهم في المقابل، لأن أياً منهم لم يجرؤ على الاعلان عن تقصيره او الاستقالة ولو حزناً على من سقطوا وفقدوا وجرحوا. حزناً على نكبة وطن. إنه إهمال مزمن وموصوف. وفق ما تروي مصادر أمنية، ففي العام 2013 رست في مرفأ بيروت السفينة روسوس وكانت متوجهة من جورجيا باتجاه موزمبيق.
كان وضعها سيئاً تقنياً فتوقفت في بيروت، وتمت مصادرة المواد التي تحملها إحتياطاً. تحول الملف الى القضاء الذي رأى ضرورة افراغها من حمولتها ومصادرتها، لإستحالة إكمالها خط سيرها خصوصاً وان بقاء البضاعة على متن السفينة كان كفيلاً بإغراقها. أفرغ الجمارك الحمولة تنفيذاً للقرار القضائي الصادر عن قاضي الأمور المستعجلة جاد معلوف في الشهر السادس من العام 2014، وكدليل على خطورتها تولى القضاء الكشف على المواد وعاينت خبيرة من آل مكرزل واقع السفينة وتأكدت من عدم امكانية ترحيلها نظراً لوضعها المزري تقنياً. بقيت الباخرة محجوزة في المرفأ الى حين غرقها عام 2016.
وأرسلت إدارة الجمارك كتاباً إدارياً يفيد بأن المواد المحملة هي عبارة عن مادة نيترات الأمونيوم منبهة إلى خطورة هذه المواد، لكن القضاء لم يجب على الكتاب وفي العام 2015 لاحظ عناصر الجيش المتواجدون في المرفأ وجود “كونتينر” مهملاً تبيّن بعد الكشف عليه أن المواد المصادرة تحتوي على نسبة 34.7 من نيترات الامونيوم، بينما النسبة المقبول بها لا تتجاوز 11 بالمئة ما يعني أنها شديدة الخطورة. لم يجب القضاء حول ما يمكن فعله حيالها، فكان إقتراح اعادة تصديرها أو إعطائها للجيش اللبناني. رفض الجيش إدخالها الى مخازنه لخطورتها مقترحاً مراجعة الشركة اللبنانية للمتفجرات لصاحبها مجيد شماس وسؤاله إذا ما كانت لديه رغبة بشرائها، أو اعادتها على نفقة المستوردين بعدما لاذ أصحابها بالهرب. وكان شقيق مرعي أبو مرعي أعد بدوره كتاباً في الشهر الاخير من العام 2017 حول رفض الجيش حيازة المواد وضرورة تصديرها. وفي العام 2018 وجه جهاز أمن الدولة آخر كتاب بشأن المواد وخطورتها مقدماً ملاحظاته على طريقة التخزين. لكن روايات مختلفة قدمتها الجهات المعنية والمسؤولة عن السفينة وقد تم بالأمس تعميم كتب الاعفاء من المسؤولية عبر مواقع التواصل الاجتماعي فتبرأ الكل من الجريمة.
اللافت أن كل الجهات المسؤولة كانت تكتفي بتوجيه الكتب والمخاطبة من دون متابعة ما يمكن تفسيره بمثابة رفع عتب على قاعدة اللهم اني بلغت. والمشكلة ان لا القضاء كان لديه الحل، ولا الجمارك إقترحته، وتصدير المواد بحاجة الى أموال وأصحاب الشركة رفضوا استرجاعها، فيما كان من الصعب إجراء مناقصة لان المناقصات لا تجري على مواد غير مطابقة أو ممنوعة، والا اعتبرت بمثابة تجارة بمتفجرات بالغة الخطورة. مسؤولية يتحملها كل من علم بالموضوع وخطورته، بدءاً من القضاء الذي أمر بإفراغ حمولة الباخرة ولم يجد فتوى قضائية للتخلص منها لخطورتها، الى إدارة مرفأ بيروت والجيش والجمارك فضلاً عن المسؤولية الادارية. فمن اين ستبدأ المحاسبة وكيف ستنتهي؟