كتبت جويل رياشي في “الأنباء الكويتية”:
مضت بيروت في الساعات الـ 48 الماضية في لملمة جراحها وأشلائها جراء الدمار الذي أصابها بعد الانفجار المهول في مرفئها، والذي أودى بالحجر والبشر، وبتراث عاصمة بوابة الشرق.
ومضى اللبنانيون في اكتشاف هول الدمار وتداعياته، الذي امتدت مفاعيله إلى قطر دائري بلغ 15 كيلو مترا، إذ تضررت كل الأبنية في هذا القطر، بتكسير زجاجها وتصدع واجهاتها بالحد الأدنى.
وفي حين انطلقت مواكب تشييع الضحايا في كل المدن والقرى اللبنانية، أدرج العشرات على الأقل، في عداد المفقودين، إذ عززت الساعات التي تلت الكارثة، عدم القدرة على الوصول الى أجسادهم، وترجيح تحولها أشلاء.
في هذا الاطار الكارثي، انقسم المشهد اللبناني الى فئتين:
الاولى تمثلت بالنخوة اللبنانية الطاغية، حيث اقدم الناس على فتح بيوتهم وتأمين السكن لعائلات فقدت منازلها، الى التبرع بالدم للمستشفيات والتطوع لتنظيف شوارع العاصمة، وجمع المساعدات على أنواعها. ونشطت صفحات عدة على مواقع التواصل الاجتماعي في جمع التبرعات وتنظيم عمليات رفع الردميات ومساعدة المسنين… إجماع من شريحة لبنانية كبيرة على التصدي لدمار تسبب به انفجار، وتخطى بدقائق ما تسببت به الحرب الأهلية بين 1975 و1990، وحتى حرب يونيو 2006 الإسرائيلية. هؤلاء اختاروا وضع خلافاتهم جانبا، والانتصار لوطنهم، والتمسك بما بقي تفاديا لخسارة لا يعوضها شيء.
لكن، وكالعادة… خرجت شريحة (وازنة أيضا)، لتتناول الكارثة من خلفية سياسية والدخول في زواريب حسابات ضيقة. هذه الشريحة أدلت بدلوها عبر وسائل التواصل الاجتماعي في أبشع الصور، دون احترام حرمة سقوط الضحايا. ويمكن القول ان البعض يصر على عدم أخذ العبر من تجربة الانقسام، التي أثمرت حربا أهلية طاحنة، لم تكن الغلبة فيها لأحد، بل انتهت الى تأكيد السير تحت راية «الوطن الذي يتسع للجميع».
لكن يبدو أن البعض يريد العودة بعقارب الزمن الى الوراء، رغم التيقن من أن الأزمات والحروب في لبنان تنتهي بصيغة: لا غالب ولا مغلوب.
بعيدا من العاصمة أو «مسرح الجريمة»، تكاد كل بلدة لبنانية تختزل حكاية عن مفقود أو متضرر أو شهيد. ففي عمشيت مثلا، سيصلى على جثمان يوسف عبدالله لحود، المدير العام السابق لشركة «طيران الشرق الأوسط» في كنيسة السيدة الملاصقة لمنزل والده التراثي (والده المحامي المعروف الذي تدرج في مكتبه رئيس المجلس النيابي نبيه بري). وكان لحود الذي قضى في منزله بمنطقة الجميزة القريبة من المرفأ، فقد ابنه عبدالله في حادث سقوط طائرة خاصة في أربيل بالعراق قبل أعوام قليلة.
حكايات أخرى من النكبة اللبنانية، ترجمتها خشية اللبنانيين من فقدان مواد غذائية وأدوية جراء تدمير مخازنها الرئيسية في المرفأ. فأقبل اللبنانيون على الأفران لتخزين الخبز، وعمدت الأخيرة الى عدم بيع أكثر من ربطتي خبز من قياس واحد، خشية فقدان الخبز والتسبب بهلع لدى الناس.
اللافت ان قسما كبيرا، رأى أن لبنان سيخرج من بين الركام في تكرار لحكاية طائر الفينيق، منطلقا «من ان المصيبة ستنتهي بتداعيات إيجابية تكسر الحصار الاقتصادي الخانق الذي عرفته البلاد في الفترة الأخيرة»، كما قال احد الأطباء الناشطين.
لمس اللبنانيون مرة جديدة أن المجتمع الدولي لم يتركهم. زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون كرست ذلك، وهبوط طائرة المساعدات الأولى الآتية من الكويت والإعلان عن جسر جوي خاص بالمساعدات بين الكويت ولبنان، وما تلاه من مساعدات قطرية وسعودية وإماراتية، أعاد الأمل بأن بيروت «مدينة العالم»، تماما كما ورد في ثلاثية الكاتب ربيع جابر الروائية التي عرض فيها لتطور العاصمة اللبنانية وقيامها بصورتها الحالية انطلاقا من مرفأ المدينة.