بعد سنوات من غيابه وغرقه في غياهب النسيان، أعاد أكبر انفجار شهدته الجمهورية اللبنانية في تاريخها، لبنان بقوة إلى صدارة النقاش في الولايات المتحدة. وسائل الإعلام الأميركية كافة، انشغلت بتغطية تفاصيل الانفجار، أسبابه، الرواية الرسمية حول الباخرة التي خلّفت وراءها أطناناً من مادة نيترات الأمونيوم ظلّت مخزنة في عنابر مرفأ بيروت، قبل أن تؤدي للانفجار الضخم، وحديث عن الأسباب التي حوّلت لبنان إلى «دولة فاشلة»، وإجماع على فساد غير مسبوق في الطبقة السياسية الحاكمة منذ عقود.
وشملت التغطية الإخبارية الوضع اللبناني، الذي أجمعت وسائل الإعلام أنه كان مزرياً أصلاً قبل الانفجار، وأن الانفجار ضاعف من مأسوية الأوضاع المعيشية، وأدى الى تدمير أكثر من ربع مليون وحدة سكنية، وتشريد الآلاف من سكان بيروت، فضلاً عن نسفه احتياطي لبنان من القمح والدواء والمواد الغذائية الأخرى التي كانت مخزنة في مرفأ بيروت.
أما دونالد ترامب، وبعدما صرّح الثلاثاء بأنه سمع من جنرالاته اعتقادهم أن سبب الانفجار «قنبلة من نوع ما»، ووصفه بـ«الاعتداء المروع»، تراجع الرئيس الأميركي عن موقفه، فيما قال رئيس موظفي البيت الأبيض مارك ميدوز، أن واشنطن بانتظار توافر المزيد من الدلائل، وأنه حتى توافرها، لا يمكن للولايات المتحدة أن تنسف فرضية الهجوم بالكامل.
واعتبر الرئيس الأميركي الأربعاء أنّ السؤال عن سبب الانفجار لا يزال بلا إجابة، وتعهّد تقديم دعم للبنان.
وقال: «أستطيع أن أخبركم بأنّ الذي حصل، مهما يكُن، هو أمر رهيب. لكنّهم لا يعرفون حقاً ما هو. لا أحد يعرف حتّى الآن». وتابع: «سمعتُ كلا الأمرين. سمعت (بأنّه) حادث. سمعتُ (بأنّها) متفجّرات».
وأكد «إننا متضامنون مع هذا البلد. لدينا علاقة جيدة جدا مع هذا البلد، لكنه بلد غارق في أزمة ومشاكل كثيرة».
وعقب يوم من الانفجار، استبعد وزير الدفاع مارك إسبر أن يكون الأمر نتيجة قنبلة. وتبنّى رواية السلطات اللبنانيّة التي ذكرت أنّ الانفجار نتج عن تخزين 2750 طنّاً من مادّة نيترات الأمونيوم بمستودع في مرفأ بيروت بغياب تدابير وقاية.
وقال إسبر في منتدى أسبن للأمن: «ما زلت أتلقّى معلومات حول ما حصل» في بيروت. وأضاف أن «أغلبيّة الناس تظنّ أنّه حادث».
من جانبه، أعرب ميدوز عن الأمل في «أن يكون مجرد حادث مأسوي وليس عملاً إرهابياً، لكننا ما زلنا ننظر في كل المعلومات».
وأعلن ناطق باسم وزارة الخارجيّة مقتل مواطن أميركي على الأقلّ وجرح آخرين في الانفجار، لافتاً إلى أنّ الولايات المتحدة بصدد التأكّد ممّا إذا كان مواطنون آخرون قد تضرّروا.
وسبب الحديث عن الهجوم يعود الى آراء صادرة عن خبراء عسكريين ممن راقبوا فيديوهات الانفجار اللبناني، وخلصوا الى أن سحب الدخان ذات اللون البرتقالي التي تعالت على إثر الانفجار تشي بحتمية انفجار مواد متفجرة معدة للاستخدام العسكري، إذ يعتقد الخبراء أن التفجير بنيترات الأمونيوم، لونه يميل الى البياض.
ومع عودة لبنان إلى دائرة الضوء، نفضت دوائر القرار الغبار عن ملف لبنان، الذي كانت وضعته على أعلى رفوفها منذ زمن. ومن يعرف أحوال العاصمة الأميركية، يعلم أنه منذ وصول الرئيس السابق باراك أوباما إلى الحكم، انحسر اهتمام سلفه جورج بوش، والذي كان يؤمن بضرورة دعم الديموقراطية والسيادة اللبنانية. كذلك، لم يمانع بوش أي حوار مع «حزب الله»، الذي تصنفه الولايات المتحدة تنظيماً إرهابياً، في سبيل حل ميليشيا الحزب ودمجها بالقوى الأمنية، مع تحول الحزب إلى سياسي حصراً.
لكن أوباما رأى في لبنان قضية معقدة لا فوائد سياسية وإستراتيجية للولايات المتحدة من الانخراط فيها، فتعامل مع لبنان على أنه جائزة ترضية أثناء مفاوضاته مع إيران: وافق على منح إيران «اليد العليا» في لبنان، وفي الوقت نفسه منح الكونغرس مكافأة بتوقيع قانون فرض بموجبه عقوبات قاسية وشاملة على الحزب اللبناني.
ولم يمانع أوباما التنسيق الأمني غير المباشر مع «حزب الله»، عبر القنوات الرسمية اللبنانية، وتصوير ذلك في إطار الحرب الدولية ضد تنظيم «داعش». وقامت واشنطن بقيادة أوباما بالتعامل مع جهات مشابهة للحزب اللبناني وتابعة لإيران، مثل الميليشيات الشيعية في العراق، قبل أن يصل ترامب إلى البيض الأبيض، ويعكس هذه السياسة كلياً، ويقوم بتصفية زعيم الميليشيات العراقية الموالية لإيران أبومهدي المهندس في الضربة التي أدت إلى مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني، قائد الميليشيات فعلياً.
ولأن إدارة ترامب صارت ترى لبنان من زاوية «حزب الله» فحسب، كان متوقعاً ألا تهتم واشنطن بأوضاعه أو دولته، خصوصاً أن لبنان راح يتحول، مع مرور الوقت، إلى دولة خاضعة بالكامل، حسب وجهة نظر واشنطن، لرغبات «حزب الله».
لكن ترك لبنان في أيدي الحزب الموالي لإيران ساهم في الإسراع في تحويله إلى «دولة فاشلة»، حسب الرأي الأميركي. وواشنطن تخشى هذا النوع من الدول، منذ أن فشلت في كيفية التعامل مع مأزق دولة أفغانستان الفاشلة، التي تحولت إلى مرتع للإرهاب والإرهابيين ممن شنوا هجمات 11 سبتمبر 2001 ضد نيويورك وواشنطن.
وساهم انفجار مرفأ بيروت في تأكيد المخاوف الأميركية أن لبنان يغرق، وأن من شأن غرقه أن يؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة والعالم، مع إمكانية تدفق لاجئين إلى أوروبا وازدياد في نشاطات المجموعات الإرهابية في البلاد. هكذا، بدأ المسؤولون والخبراء الأميركيون، بالتشاور مع نظرائهم وأصدقائهم الأوروبيين والعرب واللبنانيين المغتربين، في محاولة استنباط حلول ممكنة لتقديمها للإدارة الحالية والإدارات المقبلة.
وما يسعى الأميركيون التوصل إليه هو كيفية مساعدة اللبنانيين، من دون المساهمة في تغذية فساد الطبقة السياسية أو السماح بأي تراخٍ في الضغط على «حزب الله». ومن الأفكار المتداولة، تقديم هبات عينية مباشرة للبنانيين عن طريق المنظمات الدولية والغربية غير الحكومية، من دون المرور بمؤسسات الدولة.
كذلك عاد إلى الواجهة النقاش عن إمكانية التوصل إلى تسوية في معضلة «حزب الله»، خصوصاً بالاستناد إلى التصريحات التي كان أدلى بها البطريرك بشارة الراعي، ودعا فيها إلى «حياد لبنان الإيجابي»، وهو ما يعني تحييد لبنان عسكرياً عن الصراعات الإقليمية، بما في ذلك الصراع مع إسرائيل، من دون التوصل لاتفاقية سلام بين لبنان وإسرائيل، وهو سيناريو يوافق عليه الأميركيون بغالبية حزبيهم، الجمهوري والديموقراطي، أي أنه في حال وصول المرشح الديموقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض، مطلع العام المقبل، لن يرفض الديموقراطيون تحييد لبنان كخطوة أولى لإنقاذه من فشل دولته، وإعادة تأهيله، وإعادة إطلاق عجلته الاقتصادية.
ويسود اعتقاد أن دمج ميليشيا «حزب الله» في القوى الأمنية لتحييد لبنان ممكن في حالة واحدة فقط، وهي توافر إجماع لبناني كامل. وتردد في بعض النقاشات إشارات الى أن الإجماع كان مفتاح إجبار منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات على الخروج من لبنان في العام 1982، وأن الإجماع نفسه أجبر الرئيس السوري بشار الأسد على سحب جيشه من لبنان في 2005.
هذه المرة، مع اصطفاف الرئيس الماروني ميشال عون إلى جانب «حزب الله»، تقدم مواقف الكنيسة المارونية بديلاً أقوى من عون، ويمكن البناء عليه، بالاشتراك مع الغالبية السنية والدرزية، وبرعاية أممية وأوروبية وأميركية، يمكن التوصل إلى إجماع يجبر الحزب على التخلي عن الميليشيا والتحول إلى كتلة سياسية برلمانية وحكومية.
المسؤولون الأميركيون يقولون إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حمل في جيبه اقتراحاً حول ضرورة التوصل لإجماع وطني للتوصل للحياد الإيجابي أثناء زيارته العاصمة اللبنانية أمس. وحتى يسمع الأميركيون من حلفائهم الفرنسيين عن نتائج زيارة ماكرون، سيبقى لبنان تحت دائرة الضوء، في فرصة قد تكون الأخيرة لبيروت للخروج من الهاوية التي تسقط فيها من دون توقف.