لم تخلع بيروت الأسود عشية مرور أسبوع على الانفجار – الزلزال، ولن ترفع الرايات البيض… ها هي «ست الدنيا» تحمل «المكنسة بيد» وتُعْلي القبضات المرفوعة بيد أخرى. تنتفض على الركام وعلى السلطة، على اليأس وعلى الطبقة السياسية البائسة.
لم تخرج «بيروتشيما» من هول «انفجار القرن»، الذي يضاهي ما حلّ بهيروشيما قبل نحو 75 عاماً، ويلاقي ذكرى مرور قرن على ولادة لبنان الكبير بتدمير مرفئه الفينيقي وبتحويل أجزاء من عاصمته مجرّد أطلال، وبدفْن ناسه تحت الركام.
ومن خلف الغبار الذي لم ينجلِ بعد، سؤالٌ يتردد على كل شفة ولسان… ماذا في «الصندوق الأسود» للجريمة التي تحوّل معها الكلام مجرد أداة ممجوجة، وحتى الصور المروّعة صارت بلا إحساس ولا رحمة وكأنها تتلذّذ بالمآسي.
تحقيق محلي، إداري – أمني، من المشكوك سلفاً بنتائجه، وسط تَقاذُف مبكّر للمسؤوليات وكلام كثير عن «الحمايات السياسية». فإذا كان الأمن والقضاء في دائرة الاتهام، أقلّه بالتقصير، فأي حصيلة سيؤول اليها اضطلاعهما بالتحقيق؟
ولعل أكثر المفارقات مأسوية أن السلطة السياسية نفضت يدها من المسؤولية عن تعطيل الصاعق الذي فجّر «بيروتشيما» وتصرّفت كمَن يدفن رأسه في الرمل عبر المرور «مرور الكرام» على التقرير الأمني الذي انطوى على تحذير واضح من انفجارِ مواد خطرة في المرفأ قد تؤدي إلى تدميره.
الرئيس ميشال عون، المزهو بـ «فك الحصار» عن لبنان، لم يتردد في الإقرار بأنه تلقى «منذ فترة قصيرة (20 تموز 2020) معلومات حول الموضوع»، وأوعز فوراً إلى الاتصال بالأمين العام لمجلس الدفاع الأعلى لإجراء اللازم لأن «لا سلطة لي على المرفأ».
ولم يكن حال رئيس الحكومة حسان دياب أفضل مع الكشف عن وثيقة رسمية تثبت أنه كان على علم بوجود «الشحنة المدمّرة» في مرفأ بيروت منذ 20 تموز الماضي، في حين اكتفى، بحسب مصادر حكومية، بإحالتها على وزيري العدل والأشغال من دون أي تدخل لتجنيب بيروت الانفجار الكارثي.
الثابت حتى الآن أن «الصندوق الأسود» لـ«بيروتشيما» ينطوي على وثيقة بالغة الأهمية تشكل حجر الزاوية في الملف – الفضيحة، كان أعدّه جهاز أمن الدولة ورفعه إلى كبار المسؤولين، الذين إما تجاهلوا مضمونه لعدم إدراك خطورته وإما ضاع في غياهب الدولة العاجزة المنزوعة الإرادة.
روى هذا التقرير المؤرخ في 10 /12 /2019 حكاية الـ 2750 طناً من نيترات الأمونيوم من «الألف إلى الياء».
في حزيران 2014، دخلت إلى مرفأ بيروت باخرة يطلق عليها إسم «RHOSUS» آتية من مالدوفيا محمّلة بجرافتين كبيرتين، لدى إفراغهما في المرفأ انكسر عنبر الباخرة المذكورة ما أدى إلى تعطلها وعدم قدرتها على الإبحار مجدداً، وكان على متنها أربعة بحارة من جنسيات أجنبية مختلفة.
وبعد الكشف عن الحمولة المتبقية في الباخرة تبيّن أنها تحمل نحو 2750 طناً من مادة نيترات الأمونيوم الشديدة الانفجار والسريعة الاشتعال والتي تُستعمل لتصنيع المتفجرات، مرسلة إلى أحد البلدان الأفريقية وتحديداً موزمبيق وعائدة لشركة «SAFARI LIMITED».
وتم حجز الباخرة والعمال، وعندها قامت المديرية العامة للنقل البري والبحري بالطلب من قاضي الأمور المستعجلة في بيروت نديم زوين إنجاز أعمال تعويم الباخرة المذكورة والترخيص بنقل المواد المشحونة على متنها إلى مكان آمِن نظراً لخطورتها على البيئة وتأمين حراستها والترخيص عند القضاء.
وقامت فرقة متخصصة بالكشف على الباخرة فتبيّن وجود عيوب كبيرة في هيكلها تحول دون توافر سلامة الملاحة البحرية، فمُنعت من السفر وأعيد تعويمها داخل المرفأ تمهيداً لنقل البضائع وتخزينها في مكان مناسب تحدده إدارة الجمارك وتبقى تحت حراستها. وبعد مراجعة القاضي نديم زوين واطلاعه على الموضوع، أصدر قراراً بحجز الباخرة والبحارة والكشف على البضائع المحملة.
وفي 21 /10 /2014 إنتقل الكاتب القضائي زياد شعبان إلى حرم مرفأ بيروت وطلب من الضابطة الجمركية مرافقته إلى الرصيف رقم 9 حيث تم قطر الباخرة، كما التقى رئيس الميناء محمد المولى الذي أفاده أن حمولة الباخرة هي مواد خطرة ونظراً إلى الوقت الطويل الذي لم يتم الكشف عليها، يجب إخلاء محيط الباخرة مدة لا تقل عن اثنتي عشرة ساعة على أن يتم بعدها الكشف على البضائع داخل العنبر والعمل على نقلها إلى مستودع خاص للتخزين، فتم ذلك من إدارة الجمارك حيث نُقلت البضائع إلى العنبر رقم 12 داخل حرم مرفأ بيروت.
وفي 13 /11 /2014 حضر الكاتب القضائي زياد شعبان وتأكد من تنفيذ قرار القاضي زوين، وتم تعيين محمد المولى حارساً قضائياً على البضائع داخل العنبر لتحمل مسؤولية أي نقص أو تلف، لكن المولى تحفظ عن ذلك كون العنابر داخل المرفأ تقع تحت سلطة إدارة واستثمار مرفأ بيروت وليست تحت سلطته. وتقدمت شركة «SAFARI LIMITED» عبر وكيلها المحامي جورج القارح إلى القاضي زوين بطلب تعيين خبير للكشف على البضائع، وبتاريخ 26 /1 /2015 عين زوين ميراي مكرزل خبيرة للكشف على البضائع.
وبتاريخ 4 /2 /2015 كشفت مكرزل على البضائع وأخذت عينات منها لتحليلها فتبيّن أن نسبة الأزوت بلغت 34.7 بالمئة وتصنف من المواد الخطرة، وعندها إقترحت إدارة المانيفست في المرفأ تسليم هذه المواد فوراً للجهات الأمنية المختصة (قيادة الجيش) أو إعادة تصديرها بسبب خطورتها والكارثة التي قد تنتج جراء اشتعالها أو انفجارها.
وبعدما علمت قيادة الجيش اللبناني بذلك، رفضتْ تسلمها واقترحت التواصل مع الشركة اللبنانية للمتفجرات (مجيد الشماس) لتبيان إمكانية الاستفادة من المادة المذكورة، وفي حال عدم رغبتها بذلك إعادة تصديرها إلى بلد المنشأ على نفقة مستورديها نظراً للخطورة الشديدة التي ينتج عن بقائها داخل المخزن في ظل ظروف مناخية غير ملائمة.
وبتاريخ 18 /2 /2018 تعرّضت الباخرة للغرق داخل حرم مرفأ بيروت على كاسر الأمواج ولا تزال قابعة في قعر البحر، أما مادة نيترات الأمونيوم فهي لا تزال داخل العنبر رقم 12. وقد أرسلت دائرة المانيسفت في مرفأ بيروت طلبات خطية عدة إلى مديرية الجمارك منذ تاريخ دخول الباخرة المياه الإقليمية حتى العام 2016 للطلب من قاضي الأمور المستعجلة في بيروت مطالبة الوكالة البحرية إعادة تصدير البضائع المذكورة بصورة فورية إلى الخارج حفاظاً على سلامة المرفأ والعاملين فيه، كما طلبت البتّ النهائي بمصير البضائع وإعطائها التوجيهات اللازمة بذلك، لكنه وحتى تاريخه لم يصدر أي قرار بهذا الشأن.
وعُلم أن التقرير تضمّن أنه بعد مراجعة أحد المختصين في الكيمياء، أكد أن هذه المواد وفي حال اشتعالها ستتسبب بانفجار ضخم وستكون نتائجه شبه مدمرة لمرفأ بيروت، وفي حال تعرضت هذه المواد لأي عملية سرقة يستطيع السارق أن يستعملها لصناعة المتفجرات.
وفُهم أنه بعد الكشف على العنبر 12 من الخارج، تبيّن أن الباب رقم 9 للعنبر المذكور تعرّض لصدمة من الوسط ما أدى إلى إبعاده عن الحائط بشكل يسمح لأي شخص بالدخول إلى داخل العنبر وسرقة المواد المذكورة، وأنه لا توجد أي حراسة على العنبر ما يسهل عمليات السرقة.
ورغم أهمية هذا «المستند» الذي وضع على طاولة السلطتين السياسية والعسكرية، فإن ثمة معلومات مثيرة تنكشف تباعاً كالزجّ بنحو 10 أطنان من المفرقعات في العنبر 12 جبناً إلى جنب مع الـ«ميني – قنبلة نووية» وفي مكان لم يجهّز بنظام إطفاء خاص يأخذ في الاعتبار الخطر النائم في أكياس فائقة الخطورة.
وثمة تقديرات لخبراء بأن الانفجار الهيروشيمي الذي ضرب بيروت لم يكن ناجماً عن اشتعال الـ2750 طناً من نيترات الأمنيوم، بل جزء منها وإلا لكانت طارت بيروت عن بكرة أبيها، وسط فرضيتين واحدة رأت ان التوضيب السيئ والعشوائي لهذه الكمية الهائلة تسبب بتلف أجزاء لا بأس بها منها، وأخرى ترجح تهريبها من العنبر الذي لم يكن يحظى بحراسة، ومن المتاح الدخول اليه والخروج منه.
والأكثر إثارة في الرواية الرسمية لـ «انفجار القرن» هو تحميلها «التلحيم» مسؤولية «الزلزال» اللاهب الذي ضرب بيروت وتردّد صداه في قبرص وهزّ العالم بأسره، وسط الكلام الشائع عن أنه تم استقدام ثلاثة عمال «سوريين» لتلحيم الفجوة في الباب رقم 9 من العنبر 12 ما ولد شرارة تحولت صاعقاً لتفجير أطنان من نيترات الأمونيوم.
وتمضي لجنة التحقيق المحلية التي يفترض أن تكون شارفت على إعداد تقريرها لرفعه إلى مجلس الوزراء، في استجواب نحو 20 مسؤولاً إدارياً تم توقيفهم وبينهم مدير المرفأ حسن قريطم، المدير العام للجمارك بدري ضاهر، المدير العام السابق للجمارك شفيق مرعي، إضافة إلى موظفين وحدّادين.
ومن غير المستبعد، بحسب معلومات ما زالت طي الكتمان، وجود مستودع أسلحة انضم إلى «حفلة التفجير» الرهيبة يوم 4 آب، وسط تلميحات إلى أن هذا المستودع ربما يحوي ذخائر تعود إلى ايام الحرب التي كان شهدها لبنان (1975 – 1990) وسط أسئلة وشكوك عن سرّ الاحتفاظ بها بعد مضيّ نحو 3 عقود من الزمن على انتهاء تلك الحرب.
وفي انتظار ما ستؤول اليه التحقيقات المحلية أو ما قد سترسو عليه مطالبة أطراف لبنانية بلجنة تحقيق دولية، استمرت ترددات «الزلزال اللبناني» في وسائل الإعلام العالمية وعلى ألسنة خبراء أجانب تولّوا «فحص» ما حدث في العاصمة اللبنانية… عن بُعد.
وأعرب أحد خبراء المتفجرات في ايطاليا دانيلو كوبي، في حوار أجرته معه صحيفة «كورييري ديلا سيرا» الإيطالية: «عن اعتقاده أن أسلحة وذخائر حربية كانت موجودة لحظة وقوع الانفجار في المرفأ. ولعل ما يؤكد على ذلك هو السحابة البرتقالية اللون التي تصاعدت»، مستطرداً «يبدو الأمر أشبه بانفجار مستودع أسلحة»، مضيفاً «كان ينبغي أن يكون هناك محفز لتنفجر تلك المواد (الأمونيوم)، وإلا لما انفجر كل شيء معاً».
وعن فرضية وجود مفرقعات اشتعلت وتمدّدت إلى نيترات الأمونيوم، كما تردد في لبنان خلال الأيام الماضية قال «تحتوي الألعاب النارية على أجزاء بسيطة من المتفجرات لكن الباقي من الورق المقوى والبلاستيك، وعندما تنفجر تسبقها دائماً صفارات، إلا أننا لا نسمعها في المقاطع التي انتشرت للانفجار…».