… بين «المَشانق» التي عُلّقت في ساحات وسط بيروت في «محاكمة ميدانية» من «الشعب» لطبقةٍ سياسية حمّلها اللبنانيون مسؤولية «بيروتشيما» وآثارها المُزَلْزِلة، وبين استشعارِ الائتلاف الحاكم بـ «فرصةٍ» أطلّت على أنقاض العاصمة التي غرقت في دماء أبنائها وركام مرفئها لفكّ الحبل الذي كان يلتفّ حول عنق حكومة «حزب الله»، انقسم المشهد في «بلاد الأرز» التي لم تَسْتَفِقْ بعد من الكارثة المدمّرة التي عصفت بـ «لؤلؤة الشرق» التي صار «طعْمها طعم نار ودخان».
… من «يوم الحساب» و«الغضب الساطع» الذي اهتزّت الأرضُ معه أمس، تحت أقدام السلطة على وقع مطالباتٍ هادرةٍ باستقالةِ الحكومةِ ورئيس الجمهورية ميشال عون، إلى سبت الهَبّة العربية – الدولية المتصاعدة لنجدةِ الشعب اللبناني عبر «ممرّ إنساني» يشق طريقَه بعنايةٍ بين «حقليْ ألغام» السياسة الموصولة بصواعق المنطقة وصراعاتها التي انكشف عليها لبنان مع سقوطه في المحور الإيراني والأزمة المالية التي يتشابك فيها السياسي مع «الصندوق الأسود» للفساد، ساعاتٌ من «الأنفاس المحبوسة» قبضت على بيروت القابعة تحت… الردم.
فعلى وقع عمليات الإنقاذ المستمرة للعثور على أكثر من 60 مفقوداً (تبحث عنهم فرق عدة لبنانية وفرنسية وروسية) وصرخات الألم وطوفان الدموع في وداع قوافل النعوش العائدة إلى أحضان التراب (أكثر من 158 ضحية سقطت في انفجار المرفأ بينها زوجة السفير الهولندي جان والتمانز، وأكثر من 6 آلاف جريح)، انفجر السخطُ في وسط بيروت على مرمى العين من المرفأ الذي تَطايَر أشلاء وفي ظلال الخَراب في قلب العاصمة وأحياء رئيسية جَرَفَها تسونامي الدمار الذي يمْضي المنكوبون وجيوش المتطوّعين في محاولة إزالة ما أمْكن من آثارِه بأيديهم العارية فيما السلطة تلهو بتقاذُف المسؤولية و«غسْل الأيدي» من المسار الذي أفضى إلى فاجعة 4 آب، إهمالاً أو تقصيراً، أياً كان سبب التفجير، خطأ بشري أو تخريب داخلي أو خارجي.
وبدا منذ أولى ساعات بعد ظهر أمس أن السلطةَ باتتْ في سِباقٍ بين شارعٍ، ينتفض أصلاً في وجه الطبقة السياسية منذ تشرين الأول 2019، ولكنه صار بعد نكبة الثلاثاء أكثر إصراراً على محاسبةٍ وكأنها من «وليّ دمٍ» لم يعد لديه ما يخسره، وبين محاولاتِ لملمة آثار الكارثة الأكبر في تاريخ البلاد مستفيدة من اندفاعة دعم خارجية كبيرة للشعب اللبناني تسعى للمواءمة بين عدم ترْكه فريسة التداعيات المأسوية للانفجار الرهيب هو الذي يرزح أساساً تحت وطأة الانهيار المالي، وبين عدم التفريط بـ «دفتر الشروط» العربي – الدولي لأي دعْم مالي – اقتصادي للبنان – الدولة وقوامه الإصلاحات البنيوية والهيكلية والحدّ من تأثير «حزب الله» في الإمرة السياسية والاستراتيجية والنأي بالنفس عن صراعات المنطقة.
ومَدْفوعاً بسبحةِ استقالاتٍ من البرلمان كانت بدأت ليلةَ التفجير مع النائب مروان حمادة واستُكملت أمس مع نواب حزب «الكتائب» الثلاثة برئاسة رئيس الحزب سامي الجميل والنائبة المستقلة بولا يعقوبيان كي «لا نكون شهود زور على الكارثة (…) وستكون ولادة لبنان جديد على أنقاض لبنان القديم» (كما قال الجميل)، وذلك بعد يومين من إعلان سفيرة لبنان في الأردن ترايسي داني شمعون استقالتها احتجاجاً على «الإهمال الشامل» في الإدارة على خلفية تفجير المرفأ، جاءت المشهديةُ الشعبية في وسط بيروت حاشدة وصاخبةً ومشحونةً بكل مخلّفات الانفجار ومسبباته وسرعان ما انزلقت إلى مواجهاتٍ بين متظاهرين والقوى الأمنية بعد محاولات متكررة للتقدم في اتجاه مجلس النواب.
وتَرافَقَتْ «قنبلة الغضب» الشعبي التي تطايرت شظاياها في اتجاهات عدة، بعضها صوّب على «النظام الذي يمثله عون ورئيس الحكومة حسان دياب ورئيس البرلمان نبيه بري والأمين العام لحزب الله حسن نصرالله» وسط هتافات ضدّ الحزب، مع توقيع آلاف اللبنانيين كتاباً إلى الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن قبل الاجتماع المخصص للبنان غداً، من أجل المطالبة بإجراء تحقيق دولي بإنفجار بيروت، إنشاء صندوق دولي وتشكيل حكومة مستقلة، في ما اعتُبر رسالةً من «دولة الشعب» إلى المجتمع الدولي تستكمل ما كان استخلصه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في زيارته لبيروت يوم الخميس من «انسلاخٍ» للسلطة عن الشارع الذي بدا وكأنه يوجّه للخارج صرخة… Help.
وجاء هذا المناخ المحتدم في بيروت عشية انعقاد «المؤتمر الدولي لمساعدة ودعم بيروت والشعب اللبناني» الذي دعا اليه ماكرون والأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريس عند الثالثة من بعد ظهر اليوم بتوقيت بيروت والذي سيقام عبر الفيديو وسيشارك فيه رؤساء دول بينهم الرئيس الأميركي دونالد ترمب والمستشارة الالمانية انجيلا ميركيل ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، والذي أشارت معلومات إلى أنه يتمحور حول أربع أولويات هي دعم النظاميْن الصحي والتربوي وإعادة تأهيل المباني المتضررة جراء الانفجار، والدعم الغذائي.
واستوقف أوساطاً سياسية أن الدعوة للمؤتمر، تضمنّت إشارةً صريحة إلى «ان هذا الدعم الطارئ ومساعدات الإغاثة يجب ان تبقى منفصلة عن التعافي الاقتصادي والمالي للبنان والذي يتطلب تطبيق الاصلاحات المرتقبة من الشعب اللبناني والمجتمع الدولي، كما تم التعبير عن ذلك في اجتماع مجموعة الدعم الدولية الذي انعقد في باريس في 11 ديسمبر 2019»، وهو ما اعتُبر امتداداً للسقف الذي أرساه الرئيس الفرنسي خلال وجوده في بيروت حين أصرّ على مسار الإصلاحات كجسر عبور للإنقاذ المالي وأعقب ذلك اتصال هاتفي بينه وبين ترامب مهّد لمؤتمر اليوم على قاعدة الإغاثة الانسانية ووصول المساعدات «إلى الأرض» أي مباشرة إلى الشعب اللبناني عبر آلياتٍ تضمن عدم مرورها بـ «أيدي الفساد».
وبحسب هذه الأوساط لم يكن ممكناً تَلَمُّس آفاق «الخطوط المفتوحة» الدولية والعربية مع لبنان الرسمي والزيارات المتوالية لبيروت، رغم اقتناع هذه الأوساط بأنها على طريقة «العصا والجزرة» بمعنى إرساء «شبكة الأمان» التي تحول دون سقوط الشعب اللبناني والانهيار الشامل للبلاد وفي الوقت نفسه تلافي جعْلها غطاء للتركيبة الحاكمة بما تعبّر عنه من تحوّلات كاسرة للتوازنات السياسية، وتالياً التأكيد للمسؤولين أن «خريطة طريق» النجاة الإصلاحية – السياسية لم تتبدّل و«ساعِدوا أنفسكم لنساعدكم»، وسط توقف الأوساط عند إبداء السيد نصر الله في إطلالته عصر الجمعة الارتياح لزيارة ماكرون في مقابل الارتياب العلني الذي عبّرت عنه طهران بلسان أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي الذي اعتبر خطاب الرئيس الفرنسي «تدخلاً في الشأن اللبناني».
وكان ليل الجمعة طُبع بتطور بارز شكّله الاتصال الأول من نوعه الذي أجراه ترامب بالرئيس عون وقدّم له فيه تعازيه بضحايا الانفجار، معتبراً «أنّ ما حصل كان حدثاً شنيعاً ومؤثّراً»، ومؤكداً دعم الولايات المتحدة لمساعدة لبنان في هذه المحنة، ومشيراً إلى أنه «تحدث مع ماكرون»الذي يكنّ محبة كبيرة للبنان، وأنا لدي شعور قوي تجاه لبنان ونقف معكم والى جانبكم، قبل أن يؤكد الرئيس اللبناني لنظيره الأميركي«أننا نأمل ألا يقتصر الدعم الأميركي على المساعدات الإنسانية الطارئة، فنحن نحتاج الى العمل معاً للحفاظ على استقرار لبنان الأمني والاجتماعي والتعاون في سبيل النهوض به، ومسيرة الإصلاحات قائمة وقمنا بتنفيذ العديد منها (…) كما نأمل التعاون معاً في محاربة الفساد الحقيقي ومحاسبة الفاسدين»ومعرباً عن أمله في«أن تساعد الولايات المتحدة بإنهاء ملف ترسيم الحدود البحرية(مع اسرائيل)».
وفيما استُكملت «ديبلوماسية الهاتف» أمس باتصال أجراه جونسون بعون ونقل اليه تعازي الملكة اليزابيث الثانية، مؤكداً دعم بلاده للشعب اللبناني الصديق والمشاركة في مؤتمر باريس اليوم، ومشيراً إلى أنّ بريطانيا ستعمل مع الاميركيين والفرنسيين والالمان لإعادة إعمار المنشآت التي تضرّرت، كانت الحركة في اتجاه بيروت تشهد تزخيماً في الإطار نفسه عبر زيارة رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال الذي تفقد مرفأ بيروت والتقى كبار المسؤولين، في موازاة محطة لافتة لنائب الرئيس التركي فؤاد أوكتاي (يرافقه وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو) تخلّلها تأكيد الأخير في أعقاب اجتماعه بعون أنه «بعد الانفجار العنيف في بيروت، اتصل الرئيس رجب طيب اردوغان برئيس الجمهورية اللبنانية وقدم التعازي، وأكد ان تركيا تقف بجانب لبنان وستقدم له المساعدات».
وأضاف أوكتاي، إن ميناء مرسين التركي المطل على البحر المتوسط مستعد لمساعدة مرفأ بيروت.
أما الأبرز في الاندفاعة الخارجية تجاه لبنان فكان أول دخول عربي ديبلوماسي على الأرض من خلال زيارة الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط الذي أعلن أن «هناك إحساساً كبيراً وعميقاً للغاية بالتضامن العربي مع شعب لبنان الأبي، والجامعة مستعدة للمساعدة والدعم بما هو متاح»، وكاشفاً «استعدادنا لأن تشارك الطاقات العربية في أي شيء يتعلّق بالتحقيق في هذه المأساة وكيفية تأمين أن يأتي التحقيق شفافاً وإيجابياً لمصلحة الحقيقة».
وترافق هذا الحِراك مع تفاقُم مؤشرات استعادة المشهد السياسي الداخلي الاستقطابات الحادة بيّن السلطة وقوى المعارضة (ما كان يُعرف بـ 14 اذار) التي أعطت إشاراتٍ وضعت فيها تفجير 4 آب على «الفالق الزلزالي» نفسه لاغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وصولاً للمطالبة بتحقيق دولي في «بيروتشيما»، وهو ما رفضه صراحة عون وضمناً نصرالله مصرّيْن على تحقيق محلي يركّز على «الإهمال» في تخزين أطنان نيترات الأمونيوم في العنبر الرقم 12، من دون أن يستبعد عون احتمال وقوع التفجير «بتدخل خارجي بواسطة صاروخ او قنبلة»، ولكن في ظل اقتناع داخلي بغياب أفقٍ يشي بإمكان كشف كل ملابسات الانفجار وإذا كان نتيجة خطأ أو تخريبياً وعلى يد مَن.
ولم يكن عابراً أمس تأكيد رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط «إنه الغضب الشعبي المشروع بعد الجريمة التي ارتكبت بحق لبنان الذي يحتاج لحكومة حيادية وإجراء انتخابات على أساس قانون غير طائفي»، فيما كان رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع يتمسّك خلال جولة قام بها في أحياء متضرّرة من الأشرفية بالتحقيق الدولي «فالسلطة مُتَّهَمة».