عشية دخول «بيروتشيما» أسبوعَها الثاني غداً، كاد الغبارُ الكثيف المُتَصاعدُ من بين رُكامِ مرحلةٍ سياسية بدا وكأنها تتّجه إلى طيّ صفحتها وأخرى لم تتضح ملامحها كاملةً بعد أن ينافسَ الغبارَ الأمني للانفجار الهيروشيمي الذي وقع في مرفأ بيروت وتفكيك «شيفرة» ما حصل في «الثلاثاء المدمّر» وملابسات تسونامي الخراب الذي «التهم» قسماً كبيراً من العاصمة اللبنانية.
وفيما كانت الأنظار شاخصةً في الأيام الأخيرة على كشْف «صندوقة أسرار» العنبر رقم 12 في المرفأ وسط علامات استفهام لم تجد أجوبة شافية لها حول طبيعة الانفجار، وإذا كان فعلاً ناتجاً من 2750 طناً من نيترات الأمونيوم (كانت مخزّنة منذ أكثر من 6 سنوات) و10 أطنان من المفرقعات النارية، أم أن بين «مكوّنات» وليمة الدم والدمار أسلحة وذخائر أو مخزن صواريخ، وهل دوّى «الإعصار» بخطأ بشري ناتج من شرارات عملية تلحيم غير آمنة أم أنه وليد عملٍ تخريبيّ ما داخلي أو خارجي، لم تتأخّر الارتجاجاتُ السياسية لزلزال 4 اغسطس في الظهور قبل أن «يجفّ» هدير الارتدادات الشعبية التي فجرّت أول من أمس بركان غضب أوحى بأنه «أول الغيث» في مسارٍ متدحْرج.
ولم تكن البلاد استفاقت بعد من «سبت المشانق» والمحاكمة «الميدانية» للسلطة والطبقة السياسية على فاجعة 4 أغسطس وما تخلّله من مواجهات بين الثوار والقوى الأمنية في «ليلة القبض» (لبعض الوقت) على عدد من المقرات الرسمية (الوزارات)، حتى لاحتْ في الأفق ملامح نتائج سياسية لم يكن ممكناً أمس التقاط كامل خيوطها، ورأس جبل الجليد فيها مصيرُ حكومة «حزب الله» التي يترأسها حسان دياب والتي بدت «معلَّقة» على حبالِ استقالاتٍ من داخلها بدأت سبحتها تكرّ مع وزيرة الإعلام منال عبدالصمد التي حسمت خيارها وأعلنته مقدّمةً الاعتذار للبنانيين «الذين لم نتمكن من تلبية طموحاتهم» وربْطاً بـ«هول كارثة بيروت»، ليتبعها وزير البيئة دميانوس قطار الذي قدّم استقالته الخطية لدى دياب معللاً إياها «رفاق ولادي ماتوا… ما بقدر استمرّ بتحمّل هالمسؤولية»، فيما ارتسمت مؤشراتٌ إلى أن وزير الاقتصاد راوول نعمة كان على شفير اللحاق بزميليْه.
وعلى وقع تَوالي الاجتماعات في السرايا والمعلومات عن ضغوط مورست على وزراء لتجميد قرار الاستقالة الفردية أو الجَماعية وسط تسريباتٍ عن احتمال استقالة الحكومة جمعاء اليوم بمبادرة من رئيسها في حال لم يوافق مجلس الوزراء على طرْحه بإجراء انتخابات نيابية مبكّرة، كان من الصعب الجزم بما إذا كان اهتزازُ الحكومة هو في إطار عملية «قفز من المركب» كان بدأها وزير الخارجية ناصيف حتي الأسبوع الماضي أم أنه من ضمن سياق منظّم مفتوحٍ على مناخٍ دولي يسعى لترتيب الوضع اللبناني على أنقاض تفجير 4 أغسطس.
وترافق ذلك مع ارتسام سباقٍ جرت إشاعته بين هل تسقط الحكومة باستقالة ذاتية أم في مجلس النواب الخميس بعدما بدا أن رئيسَ البرلمان نبيه بري «كَمَنَ» لها من خلال إعلانه عن جلسات مفتوحة للمجلس ابتداءً من 13 الجاري في قصر الاونيسكو «لمناقشة الحكومة على الجريمة المتمادية التي لحقت بالعاصمة والشعب وتجاهلها»، في ظل أجواء عن قرار سياسي اتُخذ برحيل الحكومة على وقع توالي الاستقالات من البرلمان (شملت 5 نواب حتى السبت) وكان آخِرها أمس مع استقالة النائب ميشال معوّض و«الاستقالة المعلّقة» للنائب نعمة افرام الذي أعلن «تجميد نشاطي النيابي الى حين الدعوة الى جلسة لتقصير ولاية المجلس والدعوة لانتخابات نيابيّة مبكرة»، في حين قرر النائب هنري حلو تقديم استقالته الخطية من مجلس النواب، اليوم.
وبدت أوساط سياسية حذرة بإزاء هذه المناخات التي لم تستبعد أن تكون في إطار«شراء الوقت»من السلطةِ لاستيعاب الغضب الساطع في الشارع وتوسيع «الفرصة» التي تلقّفها الائتلاف الحاكم من قلب حُطام العاصمة لـ«فكّ الحصار» الدولي عن الحكومة التي كرّستْ انزلاقَ لبنان الى المحور الإيراني، وهو ما عبّر عنه انعقاد«المؤتمر الدولي لمساعدة ودعم بيروت والشعب اللبناني» عبر الفيديو الذي دعا إليه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بمشاركة الأمم المتحدة وحضور رئاسي غربي تقدمّه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، متوقّفة في هذا السياق عند إشاراتٍ صدرت عن وزراء محسوبين على فريق الرئيس ميشال عون و«حزب الله» عكستْ تمسكاً بالحكومة في ظل غياب البديل أو «رفضاً للهروب من المسؤولية».
في المقابل، كانت أوساط أخرى تتحدّث عن أن كارثة 4 اغسطس فتحتْ الطريق أمام دينامية سياسية اقليمية – دولية جديدة وفق خريطةِ طريقٍ محورها الرئيسي ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل، حكومة حيادية وانتخابات نيابية مبكرة، مستدلّة على هذا «الخرق» من الأجواء التي سَرّبت أن ملف الترسيم بات في عهدة عون الذي أثاره في الاتصال الذي أجراه به ترامب قبل يومين، كما سيكون محور زيارة الديبلوماسي الأميركي ديفيد هيل لبيروت هذا الأسبوع.
وإذ تساءلت هذه الأوساط عن سرّ الدفع بعنوان الترسيم بأبعاده الاستراتيجية إلى الواجهة على وهج التفجير، وهل أن الأمر في إطار عملية «بيع وشراء» مع المجتمع الدولي لتثبيت التوازنات الحالية في البلاد، استبعدت مصادر مطلعة هذا الأمر معتبرة أنه لا يمكن تصوّر أن الخارج في وارد تسليم لبنان لـ«حزب الله» ومن خلفه إيران وأن أي منحى في هذا الاتجاه سيُفسَّر على أن نكبة 4 اغسطس كانت «ضربة على رأس» المجتمع الدولي.
وفي رأي هذه الأوساط أنه على وقع النتائج الكارثية لتفجير المرفأ والتي بدا معها الائتلاف الحاكم وكأنه بات يُمسك بـ«جمر بيروت» بين يديه، وبعدما صار لبنان واقعياً وكأنه تحت «وصاية دولية» من بوابة الحاجة إلى دعم إغاثي لا مفرّ منه «للبقاء على قيد الحياة» في ظل الانهيار المالي الذي يصرّ المجتمع الدولي على المسار المشروط لمساعدة لبنان على النهوض منه (إنجاز الاصلاحات والحدّ من تأثير حزب الله في القرار الاستراتيجي والسياسي)، يمكن تصوُّر بلورة أو بدء بلورة خطة عمل دولية لإعادة ترتيب الوضع اللبناني تولّى وضْعها بالأحرف الأولى ماكرون خلال زيارته لبيروت على قاعدةٍ تشبه ما حصل بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير 2005 حين تمت رعاية تفاهم اقليمي – دولي أفضى إلى حكومة الانتخابات النيابية برئاسة نجيب ميقاتي والتي أشرفت أيضاً على انسحاب الجيش السوري من لبنان.
وفي رأي هذه الأوساط، أنه إذا صحّ انتقال ملف الترسيم إلى يد عون بعدما كان الثنائي الشيعي،«حزب الله» وبري يتمسكان بإبقاء مفاتيحه في جيب الأخير باعتباره ورقة استراتيجية إيرانية للتفاوض مع واشنطن، فإن ذلك يبرر السؤال إذا كان أي خرْقٍ على هذه الجبهة يُرجّح أن يتلازم مع دفْع لبنان لما يشبه «إعادة تنظيمٍ» دستورية بما هو أقلّ من اتفاق الطائف وأكثر من اتفاق الدوحة (2008) ووضْع ملف السلاح على الطاولة – وهذا ما ستكشفه الأيام المقبلة – هو من ضمن اختراقٍ أميركي – إيراني وترتيبٍ إقليمي مع طهران سيشمل أكثر من ملف ساخن في المنطقة.
على أن أوساطاً أخرى ترسم سلسلة أسئلة حول حقيقة نضوج مثل هذه المناخات التسْووية بعدما كانت إيران أعطتْ إشارات واضحة إلى أنها تراهن على شراء الوقت ريثما تمرّ الانتخابات الرئاسية الأميركية التي تراهن على أن يغادر معها ترامب البيت الأبيض، ما يجعل السؤال مشروعاً حول ما الذي سيدفع«حزب الله» لتسليم أيّ من أوراقه من الآن.