كتبت كلير شكر في “نداء الوطن”:
بكثير من الضوضاء والأضواء، تعود باريس إلى بيروت. سبق لقصر الإليزيه أن قاد الكثير من المحاولات مع القوى اللبنانية لمساعدتها على عبور محنة الأزمة الاقتصادية – المالية من خلال مؤتمرات دعم، آخرها مؤتمر “سيدر” الذي صار مرتبطاً بتأشيرة صندوق النقد الدولي الإلزامية، في محاولة من الإدارة الفرنسية إلى الإبقاء على منفذها إلى الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط… ولكنها بقيت من دون جدوى بسبب ممانعة المنظومة الحاكمة اقرار الاصلاحات البنيوية المطلوبة لفتح باب الدعم من جديد.
ولكن لهذه الجولة قصة أخرى، تبدأ بالأمن القومي الفرنسي في المنطقة في ضوء الاشتباك الاقليمي مع تركيا الآخذة في التوغل بشكل يثير قلق الأوروبيين والفرنسيين تحديداً الذين سارعوا إلى توجيه رسالة مفادها أنهم لن يتخلوا عن هذه البقعة، وتمرّ بطبيعة الحال بالخشية من فوضى غير محسوبة قد تطيح بالاستقرار اللبناني على نحو غير مضبوط، ولا تنتهي برغبة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في تحقيق انجازات خارجية قادر على استثمارها في الداخل. وصل الرجل الأرض المحروقة بفعل بركان الحديد والنار، على حصان انقاذ قد لا يتاح له في قلب العاصمة الفرنسية. وهي صورة قد تمنحه الكثير من النقاط في سجّل المنافسة الداخلية.
ولكن دخول باريس بقوة على خطّ ترتيب الوضع الحكومي في لبنان، طرح العديد من علامات الاستفهام حول مقتضيات هذا الخرق في جدار الحصار على لبنان: إلى أي مدى هناك تقاطع أميركي – فرنسي حول المبادرة التي يقودها ماكرون بنفسه؟ هل ما تقوم به باريس نابع من مبادرة ذاتية سرعان ما ستواجه رفضاً أميركياً؟ وما هو هامش هذا المسعى؟
حتى الآن، يقول المواكبون للحركة الفرنسية إنّ التجارب بيّنت أنّ الإدارة الفرنسية تعلم جيداً الخطوط الحمراء التي ترسمها واشنطن حول أي ملف دولي، وهي بالتالي تحاذر القفز فوق هذه الخطوط، كونها تعرف حدود المتاح وغير المتاح. ولذا يعتقد هؤلاء أنّ هناك تنسيقاً بالعناوين العريضة بين ما تقدم عليه باريس وبين ما تقبل به واشنطن بدليل مشاركة الرئيس الأميركي دونالد ترامب شخصياً يوم الأحد الماضي في مؤتمر دعم لبنان عبر تقنية الفيديو. وهي خطوة تحمل إشارة إيجابية يمكن البناء عليها اذا لم تواجه بفرملة سريعة.
ولهـذا راح المعنيون يدققون في كل شاردة وواردة صدرت على لسان الرئيس الفرنسي لا سيما خلال اللقاء الذي عقده مع القادة اللبنانيين في قصر الصنوبر، لكونه أشبه بخريطة طريق من شأنها أن تبيّن المرحلة المقبلة اذا ما أثبت الفرنسيون أنهم جادون في مبادرتهم، خصوصاً وأنّ المتابعين للشأن الفرنسي يؤكدون أنّ الإدارة الفرنسية تتسم بالجدية في المتابعة الحثيثة والدقيقة لمسار الأمور، ما يعني أنّ ماكرون لم يعبر المتوسط كي يستعرض صوره، وإنما ليخطّ مشروعاً سياسياً متكاملاً.
بناء عليه، راح المعنيون بالملف الحكومي يقتفون آثار الموقف الأميركي من كل ما قاله الرئيس الفرنسي في بيروت لا سيما في ما خصّ كلامه عن حكومة وحدة وطنية التي سرعان ما سحبت من التداول الفرنسي الرسمي، ما رفع من منسوب الشكوك في أذهان القوى اللبنانية حول غياب التنسيق بين باريس وواشنطن، وزاد من احتمال أن تكون المبادرة الفرنسية ذاتية وغير محصنة أميركياً، ما قد يعرضها للضرب في أي لحظة.
أما المسألة الثانية التي شكلت ثغرة في المبادرة الفرنسية فتتصل برئاسة الحكومة. كان الاعتقاد سائداً أنّ باريس تؤيد عودة رئيس الحكومة سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة، وهو كلام نقل إلى أكثر من فريق لبناني منذ مدة، لكنه لم يلق آذاناً صاغية من “حزب الله” تحديداً لعدم رغبته في تلك الفترة بتطيير حكومة حسان دياب. وحين طرح ماكرون فكرة حكومة وطنية، ظنّ مستمعوه أنّه يزكّي الحريري للعودة إلى السراي. ولكن سرعان ما تبيّن وفق المعنيين بالملف الحكومي أنّ باريس غير متمسكة برئيس “تيار المستقبل”.
هنا، يشير بعض المواكبين للحراك الفرنسي، إلى أنّ الادارة الفرنسية ليست معنية أصلاً بالتفاصيل اللبنانية. لم يسبق أن فعلتها وليست في وارد الغرق في هذا المستنقع. ولهذا حين تحدث ماكرون عن حكومة وحدة وطنية لم يقصد أبداً المفهوم اللبناني لهذه الحكومة، وانما المفهوم الغربي أي حكومة توافقية تلقى موافقة جميع القوى السياسية ولا تستثني أحداً. كذلك تتعامل مع مسألة رئاسة الحكومة بحيث لا تفضل شخصاً على آخر لأن كل ما تريده هو تفاهم اللبنانيين على حكومة منتجة قادرة على اقرار الاصلاحات بلا تلكؤ.
بناء عليه، يقول المتابعون للشأن الحكومي إنّ الصورة لا تزال ضبابية. ولا بدّ أولاً من انتظار انتهاء مراسم وداع كبار الضيوف والزوار قبل انطلاق حركة المشاورات الداخلية بحثاً عن صيغ مشتركة تساعد على فكفكة عقد التكليف والتأليف، خصوصاً وأنّ المعنيين يتموضعون حتى اللحظة على نحو سلبي بمنطق الفيتوات لا المبادرات الايجابية.
تفيد الخلاصة، أنّه ليس هناك من دلائل حسية حتى الآن، تثبت أنّ الادارة الأميركية تؤيد بالمطلق المبادرة الفرنسية، أو ترفضها برمتها. جلّ ما تحاول باريس القيام به هو توسيع دائرة حراكها اللبناني بعد اقناع الادارة الأميركية أنّ استراتيجيتها لم تكن فعالة. ووفق المعلومات، اكتفى وكيل وزير الخارجية ديفيد هيل خلال لقاءاته أمس، بالاستماع إلى آراء ومواقف مستقبليه. وبالتالي لم تتضح بعد وجهة نظر واشنطن ازاء الملف الحكومي، ما يعني أنّ السيناريوات التي تتحدث عن تكليف وتأليف سريعين قد يسبقان عودة ماكرون الى بيروت، لا تستند الى معطيات جدية أو واقعية.