قبل انتقال ملف تفجير مرفأ بيروت والنكبة التي حلت بلبنان واللبنانيين الى المحقق العدلي القاضي فادي صوان بعد تسميته قاضيا عدليا قبل يومين، كان الرهان على ان التحقيق الإداري الذي باشره القضاء باشراف النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات قد تقدم الى درجة اقترب من تحديد المسؤوليات على اكثر من مستوى اداري وجمركي – مالي وامني.
فقد كان الإعتقاد سائدا ان المهلة التي حددها مجلس الوزراء في الأيام الخمسة التي تلت الجلسة الاستثنائية لمجلس الوزراء في الخامس من آب الجاري كانت جدية ومنطقية. فكل الملفات والتقارير والاحالات جاهزة بعدما حمل المستمع اليهم سلسلة التقارير التي وثقوها منذ دخول الباخرة الى مرفأ بيروت لوضعها بتصرف قاضي التحقيق وليس هناك من تعقيدات لمجرد المقارنة بين آلية التصرف التي اعتمدت وما تقول به الانظمة الداخلية والصلاحيات.
ولكن، ذهبت كل التوقعات ادراج الرياح، فعبرت المهلة دون ان يسأل احد عن مصير التحقيق وانشغل اللبنانيون بتبادل التقارير ومحاضر جلسات التحقيق بما حملته من تمويه وتحوير دون ان يحرك القضاء ساكنا ومن دون ان يوضح احد حقيقة المعلومات التي كانت مؤرخة بتواريخ ومواعيد محددة وبعضها بالوثائق المباشرة قبل ان يقال ان معظم ما ادلي به ونشر كان “ملغوما” وقد “دس الكثير من السم في الدسم”.
اما وقد بات الملف في عهدة المجلس العدلي والقاضي صوان الذي سمي نتيجة مخاض العلاقات غير السوية بين وزيرة العدل ماري كلود نجم ورئيس مجلس القضاء الاعلى القاضي سهيل عبود واعضائه وكأنها التجرية الأولى في التعاطي بين وزير للعدل والمجلس، فالعودة الى كيفية التعاطي مع التجارب السابقة كانت اقصر الطرق الى تجاوز الاستحقاق والعبور به دون ريبة او دون تشكيكك ولكن ما حصل ينبىء بوجود نوايا غير صافية في مرحلة هي الأخطر, فما شهدته بيروت كان استثنائيا ومفجعا ولكن الاحالة الى المجلس العدلي كانت عملا روتينيا لا يجوز استخدامه او استثماره في الحياة السياسية مخافة ان يسيء ارباب البيت الى ابناء العائلة الواحدة وهو ما حصل من دون اي مبرر ومن دون اي توضيح الى اليوم فزرع الشك من اللحظة الأولى بصدقية التحقيقات وبوجود النية بالتلاعب مسبقا بها.
لا يقف المراقبون امام ما جرى بتفاصيله المعقدة والمتعددة الوجوه التي لا يمكن إحصاؤها قياسا على حجم الافلام القصيرة التي جرى تعميمها وتلك المفبركة وخضعت للتلاعب بشكل قلب الأدوار بين من كان يتهم “العدو الصهيوني” قبل اي تحقيق وبين من سعى الى التأكد من وجود الطيران الحربي الاسرائيلي فوق المنطقة المنكوبة قبل الانفجار الكبير الذي انهى مسلسل الانفجارات المتعددة التي احصيت بين اربعة وستة تفجيرات حسب السيناريوهات التي يمكن التدقيق فيها من خلال الأقمار الصناعية التي ينتظرها لبنان ومعه الباحثون عن شيء من الحقيقة.
ففي اعتقاد المعنيين بالملف ان ما حصل قد حصل، ويمكن تجاوزه الى حين اثبات ما هو ضروري بغية الاسراع بالتحقيقات المطلوبة والكشف عن مساحات واسعة من الغموض ما زالت تغلف الملف من جوانب عدة، فالكثير من الجوانب المطلوب توضيحها لا يمكن ان تكشف من خلال التحقيق الاداري. وعليه ترى الاوساط السياسية والدبلوماسية التي تراقب مجرى التحقيقات ان بعضا من الاعلام انهى هذه التحقيقات قبل ان تبدأ. ومرد ذلك الى التسريبات التي رافقت ما يمكن تسميته بالتحقيق السري بطريقة اعتمدت في الكثير من الجرائم السابقة والتي لم تنته بعد الى كشف الكثير من الحقائق سوى تلك التي احصت الشهداء والضحايا والأضرار التي لحقت بمسارح الجرائم المتعددة التي ارتكبت حتى الامس القريب.
وعليه تنتظر هذه الاوساط ما يمكن ان تأتي به التحقيقات الدولية بشأن الجانبين التقني اي ما يتصل بنوعية الانفجار وهل كان بفعل الصدفة او الاهمال ام ان هناك تدخلا خارجيا افضى الى التفجير الرهيب رغم المخاوف الجدية من عدم الوصول الى هذه الحقائق. فالجريمة التي ارتكبت باعتبارها “ضد الانسانية” تدين دولا ومحاور ان تبث تورطها ولا تقف عند تحديد العملية عسكرية كانت ام نتيجة التحالف القائم بين الفساد والإهمال فكلاهما وجهان لعملة واحدة.
ولذلك لا يمكن الرهان إلا على التحقيقات الدولية ويمكن الحصول على البدايات منها في وقت قريب، كما يقول مرجع امني. فالفريق الفرنسي الذي سبق زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون يمكن ان ينهي الفحوصات الاولية للعينات التي جمعها من مسرح التفجير ومناطق مختلفة من مساحة الاضرار التي تسببب بها وخصوصا متى جمعت “مكونات” و”ادوات” يمكن ان تحتفظ بنسبة عالية من المواد الكيماوية ويمكن تحديدها للبت النهائي إن كانت نتيجة محتويات “عنبر النيترات” او نتيجة تفجير “صواريخ غير مركبة” او اي مكونات مختلفة، او ان ما حصل مجرد إهمال وحريق طال “مفرقعات نارية” قبل ان يمتد الى المواد المحكي عنها والمحفوظة في اسوأ الظروف منذ ست سنوات.
وهل سيكون الرهان طويلا؟ تقول المراجع المعنية التي تواكب التحقيقات لـ”المركزية” ان بعضا من نتائج الفحوصات الاولية يجب الا يطول. وان مطلع الاسبوع المقبل سيشهد على بدايات ما تم التوصل اليه. وإن جاءت بالنتائج الواضحة التي لا تحتمل اي لبس، يمكن ان تكتمل بالصور المأخوذة من الاقمار الصناعية وتسهل عبور المرحلة المقبلة بالنظر الى ما تؤسس له من معطيات قد لا يطول التثبت منها او نفيها بشكل حاسم.
ولكن هل هناك ما يحول دونها؟ بالتأكيد فان جريمة من النوع الذي ارتكب يمكن ان تقود الى مرحلة لمنع الاشارة الى اسبابها. هذا في المطلق ولكن العالم ان تفرج على هذه المأساة دون قول الحقيقة فسيكون استحقاقا كبيرا على اللبنانيين عبوره بالكثير من الجدية. فان كان هناك ما يؤشر الى شعور جميع اللبنانيين بحجم النكبة بشكل جدي وإلا يكون التكاذب مادة دسمة على طاولات المسؤولين وعندها سيتحمل فرقاء محددون المسؤولية. وان لم يستطع لبنان محاسبة اي قوة دولية يمكن للبنانيين ان يحاسبوا فريقا من بينهم استدرج الى البلد المأساة التي لم يشهدها احد من قبل.
على اي حال وبانتظار تلك المراحل المتقدمة ان اكتملت عناصرها، تبقى الإشارة الى التعثر الذي اصاب التحقيق الادراي ملفتة وضرورية، فعندما بلغت مرحلة الاستماع الى عدد من الوزراء السابقين وتقديم الحجة بأن محاسبتهم لا تتم سوى عن طريق المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء الذي لم يولد بعد عدا ان احد اعضائه من النواب بات خارج المجلس النيابي.
ولذلك طرح السؤل، ان كان بعض المطلوب الاستماع الى افاداتهم نوابا لهم حصانتهم فان البعض الآخر بات خارج السلطة ولا يخضع لمثل هذه الأحكام. وان كان احدهم طلب رفع الحصانة عنه من رئيسه فأي ربط يجري بين التحقيق ومهام المجلس الاعلى غير قانوني وغير دستوري ويقود الى الفضيحة، فهل تتوقف التحقيقات على اعتاب السلطة التنفيذية بغطاءين قضائي وتشريعي؟!