رغم قول الأطراف الإقليمية والدولية كلمتها عبر «ديبلوماسية الأرض» كما «ديبلوماسية الهاتف» في ما خصّ تشكيل الحكومة الجديدة التي باتت تختصر كل طَبَقات الصراع من حول «بلاد الأرز» وفيها، وانعكاسِ سقوف الحدّ الأعلى من الشروط والشروط المضادّة الخارجية على مواقف رسْم حدودِ التفاوض وخطوطه الحمر من الأطراف المحليين، فإن ثمة اقتناعاً راسخاً بأن الحُكْمَ الذي يُنتظر أن تُصدِرَه المحكمةُ الدوليةُ الخاصة بلبنان غداً بحقّ 4 من «حزب الله» مُتَهَّمين باغتيال الرئيس رفيق الحريري لن يتأخّر في إضافة بُعد جديد إلى الواقع اللبناني الذي جاء «جحيم 4 اغسطس» (تفجير المرفأ) ليُكمل «الحلقة الجهنمية» التي يدور فيها منذ أشهر بفعل الانهيار المالي – الاقتصادي.
وفي هذا السياق ساد بيروت أمس الترقب الثقيل على جبهتين:
* الأولى التفاعلات العملية للمعادلتين المتقابلتين اللتين أرستْهما كل من واشنطن وطهران حيال الأزمة الشاملة في لبنان واللتين تحاول باريس توفير «منقطة آمنة» بينهما، وسط حسْم الديبلوماسي الأميركي ديفيد هيل في ختام زيارته لبيروت مسار الخروج منها عبر «تغيير حقيقي قولاً وفعلاً» تراه الولايات المتحدة على قاعدة تقويض ركائز نفوذ «حزب الله» في الوضعين السياسي (عبر الحكومة) والاقتصادي (عبر منظومة الفساد التي يستفيد منها) كما على مستوى قفْل ممرات تَمَدُّده الاقليمي عبر الحدود البرية والمرافئ.
وفي المقابل لم تُخْفِ طهران علناً كما عبر «حزب الله» تَعاطيها مع المنعطف الذي شكّله «بيروتشيما» وما تلاه من استقالة حكومة الرئيس حسان دياب على أنه محطة لا تستوجب الخروج من المضي في business as usual من خلال محاولة العودة إلى خيار حكومة الوحدة الوطنية التي سمّاها السيد حسن نصرالله «محمية سياسياً» في حين يراها خصومه بمثابة «محمية سياسية» يريد منها تكريس التركيبة التي طوّعها فأحكم قبضته على كامل لوحة التحكم والسيطرة بالواقع اللبناني.
* والثانية محكمة الحريري التي ستنطق غداً بالحُكْم في جريمة 14 فبراير 2005 التي يستعيد لبنان عشية يوم العدالة فيها مختلف ملامح الصراع الذي شكّل المسرح السياسي لزلزال الـ 2.5 طن من المتفجرات، قبل أن يأتي زلزال الـ 2750 طناً من نيترات الأمونيوم في 4 أغسطس، ليستحضر مناخاتٍ كان جرى «تنويمها» في الأعوام الأخيرة وأيقظتْها المكاسرةُ الأميركية – الإيرانية التي لا يمكن تَصَوُّر ألا يدخل تاريخ 18 أغسطس (يوم الحكم) على خطها رغم كل التسليم الداخلي ولا سيما من الرئيس سعد الحريري برفْض تحويل هذا الحُكْم منصةً للثأر، وذلك نظراً إلى أن المحكمة تصبّ عند مجلس الأمن الذي كان أنشأها العام 2007 بموجب قرار صادر تحت الفصل السابع.
وفي حين كانت بيروت ما زالت تحت تأثير زيارة هيل الذي قام بما يشبه «المحاكمة» للطبقة السياسية على خلفية «الحدث المأسوي (تفجير المرفأ) الذي كان، بطريقة أو بأخرى، من أعراض أمراض في لبنان هي أعمق بكثير، وكل مَن في السلطة تقريباً يتحمّل قدراً من المسؤولية عنها. وأميركا تدعو القادة السياسيين للاستجابة لمطالب الشعب المزمنة والشرعية، وهذه لحظة الحقيقة للبنان فأي نوع من لبنان تريدون»؟ بدا أن لعبة زيادة سرعة السقوط في الهاوية ستحكم ملف تشكيل الحكومة في ظل مؤشراتِ رفْع طهران من مستوى ضغطها لقيام حكومة وفق معايير «حزب الله» ومحاولة إحداث توازن مع الهجمة الدولية التي بات معها لبنان وكأنه «في غرفة عناية» متعدّدة الجنسية.
وفي موازاة ذلك، كانت المواقف الداخلية تعكس بدورها الاستقطاب الحاد حول الحكومة ومجمل المرحلة الراهنة وسط توقف أوساط مراقبة عند موقفين: الأول لرئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، الذي قال في معرض التعليق على تفجير المرفأ «أننا أمام كارثة ومأساة وطنية، حصلت بسبب الإهمال كما بسبب حادث إما غير متعمّد أو تخريبي او اعتدائي. وفي كلّ الحالات، الحقيقة مطلوبة والمحاسبة واجبة»، منتقداً ما حصل «لحظة وقوع الفاجعة الكبيرة، إذ جرى الهجوم على رئيس الجمهورية وعلينا من سماسرة الاستغلال السياسي».
وأكد «اننا في صراع وجود مع اسرائيل، والمسألة ليست فقط خلافا حول مفهوم السلام»، معلناً في موضوع الحكم باغتيال الحريري «نريد العدالة ولكن شاملة. لا نقبل ظلم أحد بعدم إحقاقها ولا نقبل التشفي، ولنا دور كبير نلعبه بمنع أي اقتتال أو فتنة»، مشدداً على «أن مشهد الـ 2005 و2006 يتكرّر، وعزل مكوّن لبناني نحنا ما بيسوى نمشي فيه، ولو كلّفنا غالي. ويلوّحون لنا بفرض عقوبات، ولو جائرة وليس لها أساس قانوني ولكن انا شخصياً من دون تردّد مستعدّ ان أتحمّل الثمن».
وفي حين أعلن أنه لم يعد معنياً بدخول الحكومة شخصياً، رَبَطَ مشاركة «التيار» في الحكومة العتيدة بأن تتوافر فيها «شروط الانتاجية والفعالية والإصلاح برئيسها وأعضائها وبرنامجها»، متوجّهاً إلى مناصريه «نحنا ما منعتدي على حدا ولكن ما رح نسمح لحدا يعتدي علينا. اسمعوني منيح: ما تجروّنا لمحلّ ما منريده. نحن اوادم بس مش ضعاف، نحن مش ميليشيا بس نحن ولاد الأرض ومنعرف منيح الأرض».
والثاني لرئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، الذي ردّ على تهديد الأمين العام لـ«حزب الله» ضمنياً بإنهاء حزبه من باب إنهاء «محاولات جر لبنان إلى الحرب الأهلية» اذ تمنى بعد زيارته البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي على البعض «تخفيف عنترياته وتهديداته (…) ومن الأفضل أن نعتمد دائماً لغة المنطق والهدوء في التخاطب في ما بيننا، والأهم أن نتشارك جميعاً بالحفاظ على الاستقرار والسلم الأهلي»، مكرّراً الدعوة لحكومة مستقلين بالكامل ورفْض حكومة الأقطاب (يدعو إليها عون)، متمسكاً بتقصير ولاية البرلمان.
ولم يحجب هذا التقابل موقفان بارزان الأول للرئيس عون الذي أكد في مقابلة مع محطة BFMTV الفرنسية «الإرادة في التوصل الى نتيجة سريعة في التحقيق المتعلق بانفجار المرفأ»، معتبراً أن «كل الفرضيات لا تزال قائمة، ولا يمكننا التهاون بهذا الموضوع».
وإذ نفى «أن يكون حزب الله عائقا أمام الإصلاحات أو أمام تشكيل حكومة بصورة سريعة»، اكد «لست في وارد التفكير بمغادرة السلطة لأن ذلك يحدِث فراغاً في الحكم، فالحكومة مستقيلة. ولنفرض أنني استقلت،ُ فمن يؤمن الاستمرارية في الحكم؟ على عاتقي مسؤولية كبرى».
وعن الاتفاق الذي قامت به الإمارات مع إسرائيل، اعتبر أن «الإمارات بلد مستقلّ وله الحق بالقيام بما يريده».
وقال رداً على سؤال حول هل لبنان على استعداد لتوقيع السلام مع اسرائيل: «لدينا مشاكل مع إسرائيل يتوجب حلّها. فهناك أرض لبنانية لا تزال إسرائيل تحتلها، إضافة الى حدود بحرية يجب ان يتم تحديدها».
والثاني للبطريرك الراعي الذي أكد «يجب البدء فوراً بالتغيير مسرعين الى إجراء انتخابات نيابية مبكرة من دون التلهي بسن قانون جديد وتأليف حكومة جديدة كما يريدها الشعب»، معلناً «الشعب يريد حكومة انقاذ لبنان لا حكومة إنقاذ السلطة»، متسائلاً: «كيف يمكن إعطاء ثقة لاي حكومة لا تتبنى الخيارات الوطنية أو توفر تغطية لمشاركة هذا الفريق أو ذاك خارج الثوابت الوطنية؟ هل يدرك المسؤولون خطورة حجب الثقة الدولية عنهم؟».
وأضاف: «لبنان اليوم يواجه أعظم الأخطار ولن نسمح بأن يكون ورقة تسوية بين دول تريد ترميم العلاقات في ما بينها على حساب آلام الشعب اللبناني».