كتب رشيد درباس في “نداء الوطن”:
أصرّت أكثرية الشعب اللبناني على التحقيق الدولي، فكان أوّل الغيث تقرير رئيس لجنة تقصّي الحقائق الدولية المحقّق بيتر فيتزجرالد الذي أكّد عدم كفاءة، وعدم رغبة القوى الأمنية آنذاك، بالوصول إلى نتائج واضحة، فكانت المحكمة التي استنفدت وقتاً طويلاً أتاحت فيه للأطراف أوسع المجال لتقديم أدلّة الإثبات والنفي، واستمع العالم إلى المرافعات، إلى أن حان وقت الحقيقة… لأنّ الحكم في تعريف القانون هو عنوان الحقيقة.
اليوم، سيصدر الحكم في قضية استشهاد الرئيس رفيق الحريري ورفاقه عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والتي أنشأها مجلس الأمن الدولي تحت الفصل السابع.
وبغضّ النظر عمّا سيكون منطوق الحكم، أشير الى أنّه حكم غير نهائي، لأنه سيُستأنف أمام محكمة الإستئناف التي سيكون لها القول النهائي. في انتظار ذلك، رحت أُقلّب في ذاكرتي أموراً وأحداثاً، رأيت أن أعود بكم إليها، لِما لها من دلالات، ولِما تركت من آثار على لبنان والجوار بما لم تتوقّف تداعياتها حتى الآن.
أول ما تذكّرته أنّ السيد حسن نصرالله، أمين عام “حزب الله” صرّح علناً أنّ اغتيال الرئيس الحريري زلزال لن تتوقّف تردّداته.
سبقه إلى ذلك يوم التشييع، ومن دارة الشهيد الحريري، المرحوم سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودية، قائِلاً إن لم تتوصّل التحقيقات إلى نتائج واضحة فسيحدث ما لا تُحمد عقباه.
الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك ركب الخطر، وزار برفقة زوجته والسيدة نازك الحريري الضريح، حيث استُقبل استقبالاً عاطفياً ممزوجاً بالغضب والحزن، فذرف دمعة على صديقه ووعده بأنّ قضيته لن تُدفن معه.
ردّات الفعل العربية والإقليمية والدولية جعلت مسألة الإغتيال حيّة ومُتعاظمة ومنشورة على أسطح الكرة الأرضية، ولا تزال.
مجلس الأمن الدولي أصدر قراراً خالياً من حقّ النقض، وصف فيه الجريمة بأنّها فِعل يُهدّد السلم والأمن الدوليين، وشكّل لجنة تحقيق بسبب عدم كفاءة أجهزة الأمن اللبناني، كما وصفها.
كلّ هذا أخرج الإغتيال من خانة الجريمة العادية، ووضعها في مصاف الأعمال العدوانية التي تجعل العالم برُمّته معنيّاً بها وبالتصدّي لها.
المرحوم أنطونيو كاسيزي أوّل رئيس للمحكمة الدولية، فسّر القانون اللبناني تفسيراً واسعاً، بحيث أصبح الإرهاب يشمل أي فعل من شأنه أن يسلب المرء إرادته أو يؤثّر عليها.
المفاجأة العظيمة كانت ساحة الشهداء التي استقبلت مئات آلاف من الأحرار العاديين الذين تجاوزوا الخوف من القوات السورية، وأهدوا الورود للجيش اللبناني الذي سهّل لهم الوصول، بتعليمات من قائده العماد ميشال سليمان.
خرجت سوريا من لبنان تحت وطأة الغضب الشعبي والموقف الدولي، وجرت انتخابات اكتسح فيها مرشّحو 14 آذار أكثرية المقاعد، ولكنّ الاغتيال السياسي بقي على حاله، وراح يستهدف النواب والمعارضين الذين وقفوا بوجه الهيمنة، ثم تمكّن صاحب القوّة بعد ذلك أن يكسر شوكة الإعتراض، فآل لبنان بالتالي إلى ما آل إليه.
إذن، لن يكون حكم 7 آب رافعة لنا ممّا نحن فيه، ولكنه سيُعيد إلقاء الأضواء، محلياً وإقليمياً ودولياً على تلك القضية التي كانت شرارتها اغتيال الرئيس الحريري، ثم التهبت فأحرقت سوريا وأجّجت العراق واليمن، وكأنّ وجود رفيق الحريري الذي كان علامة من علامات السلام والإعمار، يؤكّد أنّ غيابه كان مؤشّر انطلاق للفوضى التي لا تُبقي ولا تَذر.
تبقى ملاحظة، وهي أنّ المشمولين بالقرار الاتّهامي، من قضى منهم ومن لم يزل، لا توجد بينه وبين الشهيد عداوة أو خصومة أو معرفة، وهذا يذهب بالمراقبين إلى نتائج خطيرة قد يسكت عنها الحكم بعد أن يدلّ عليها دلالة نافية للجهالة.
أودّ في النهاية أن أروي لكم أحداثاً ثلاثة حصلت بيني وبين المرحوم الرئيس الحريري:
أولّها، أنه في العام 2000، جاء الشهيد إلى طرابلس للمشاركة في تشييع المرحوم خالد زريقة، فأخبرني المقدّم حينذاك، أشرف ريفي، أنّني مدعو للعشاء في منزل إبنه بهاء، القائم على بولفار طرابلس، فقلت له: “ولكنّي أريد أن أُسِرّ إليه شيئاً”، فوعدني بذلك. وبالفعل، اختليت به في مكتبه مع الأخ توفيق سلطان، أغلق الباب وقال: ما وراءك؟
قلت أنت منعت النقيب سمير الجسر من الترشّح، فلماذا؟
أجاب: بصراحة كلّية، طلب منّي ذلك الأمير عبد الله بن عبد العزيز، بناء على طلب من بشّار الأسد، وأردف أنّ والده الرئيس حافظ يعرفني جيداً ويمنع عنّي الأذى، أما هو فلا يعرفني وقد أُعرِّض حياتي للخطر.
في المرّة الثانية، ذهبت إليه مع الأستاذ الفضل شلق لدعوته إلى عشاء يُقام بمناسبة زفاف ولدينا علي وروى، فأكّد حضوره، ثم رحت استرسل معه في السياسة، فأدلى بما لن أنساه:
قال: “لا أريد رئاسة الحكومة، ولكنّني سأخوض الإنتخابات في لبنان كلّه، ليس لهم بعد ذلك إلّا أن يقتلوني، (بيكون خلص عمري) ثم استدرك مُتسائلاً: “بتظنّ بيعملوها يا رشيد”؟
ثالثها، أنّه في نهاية كانون الأول 2014، جاء إلى العشاء في مطعم الـ eau de vie، وكان قادماً من زيارة البطريرك صفير، أخذنا الصورة التذكارية ثم سألته عن الزيارة، فأجاب: “اتفقت مع غبطته على قانون 1960″، فجأة انقطع النور في المطعم المشهور، فاعتذر منّي وذهب..
ثم ذهب.