كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:
بَعثر انفجار مرفأ بيروت، تحوّل المشهد اللبناني، إلى قطع «بازل»، ثمّة حاجة إلى إعادة ترتيبها لكي تتّضِح صورة ما بعد الكارثة التي لن تكون بالتأكيد كما قبلها.
إذا كانت اعادة تركيب «البازل» تتطلب، كما هي العادة، البدء بإطار الصورة، فإنّ هذه القاعدة في ما خَصّ المشهد اللبناني تتطلّب، قبل أيّ شيء آخر، معرفة ما جرى بالفعل في مرفأ بيروت، وهو ما ستكشفه التحقيقات – أو هكذا يفترض – أللهم إلا اذا ضاعت الحقيقة في دهاليز السياسة الداخلية والخارجية.
ثمة بنود عدّة تندرج في إطار «الحقيقة»، يمكن توزيعها على مستويين:
الأول، هل ما حدث كان إهمالاً متأصلاً في منظومة الفساد اللبناني، أم عملاً تخريبياً، وبالدرجة الأولى إسرائيلياً، بصرف النظر عما اذا كان الأمر مرتبطاً بحريق مفتعل أو صاروخ مرتدياً طاقية الإخفاء؟
الثاني، لماذا وكيف وصلت شحنة نيترات الأمونيوم إلى لبنان؟ هل كان الأمر سوء تقدير من القائمين على شؤون مرفأ بيروت، أم أنّ الشحنة في الأساس كان مطلوباً أن تصل إلى «مغارة علي بابا الفساد اللبناني» في عبور وهمي إلى جهة ما؟
ضمن هذين المستويين من الأسئلة، يدور الحراك الدولي، الذي بات فيه العامل الداخلي مجرّد تفصيل، لا سيما بعدما فتح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون «ردّة» زيارات الوزراء والموفدين الاقليميين والدوليين إلى بيروت، محمّلين برسائل تتشابَه في محتواها مع حالة العبث السائدة في لبنان منذ ما يقرب العام.
أهمية التساؤلات تكمن في أنها ستحدد مسار الأمور في لبنان، بعد العرض العبثي المستمر منذ 17 تشرين الأول، خصوصاً أنّ كارثة بيروت شكلت لحظة فاصلة بين بلد كان يسلك طريقه إلى الهاوية بالجهود الداخلية، بعدما بات صداعاً في رأس الخارج، وبين بلد يقف اليوم عند مفترق بين طريق الهاوية بسيناريوهاتها المتعددة، وبين معادلات سياسية جديدة يدفع بها الخارج في حركة تهافته المستمرة.
هو مفترق الطرق الذي عبّر عنه ايمانويل ماكرون حين خَيّر القوى السياسية في لبنان بين «تغيير النظام» وبين «العقد السياسي الجديد».
بهذا المعنى، يمكن وضع فرضيّتين للمسار السياسي المتوقع، يبقى تأكيدهما رهناً بمعرفة ما حدث في مرفأ بيروت تماماً. اذا كان الانفجار إهمالاً يجسّد اهتراء منظومة الحكم اللبنانية الغارقة بفسادها المتأصل، يمكن القول إنّ الحراك الدولي يتعامل مع واقعة وقعت، وهو ما يعني بطبيعة الحال انّ الثمن المطلوب تسديده لتسوية سياسية تجنّب البلاد الهاوية سيكون كبيراً، وسيكون مطلوباً دفعه من قبل الفريق الذي كان الغرب قد أطلق عليه «حكومة حزب الله». وأمّا اذا كان ما جرى مفتعلاً (علماً بأنّ كافة المؤشرات حتى اللحظة تَشي بعكس ذلك)، فيمكن افتراض وجود خطة مسبقة لِما هو آتٍ، والتحقيق وحده، لو تَمّ بشفافية، سيُظهر الفاعل، وحينها سيكون دافع الثمن مختلفاً.
الأمر نفسه ينسحب على معضلة تحديد ملابسات وصول وتخزين شحنة الموت الى مرفأ بيروت، وهو ما سيحدد أيضاً الثمن ودافعه، خصوصاً أنّ الفرضيات في هذا الإطار تذهب في أكثر من اتجاه، بعضها ضعيف، ومن بينها سردية تقول انّ نيترات الامونيوم كانت مخزّنة لصالح «حزب الله»، وأخرى تقول انها احتجزت وهي في طريقها إلى المجموعات المسلحة في سوريا؛ وبعضها الآخر أقوى، ولعلها الاقرب الى المنطق، وتصبّ في خانة فساد المنظومة الحاكمة.
أيّاً تكن الحال، فلبنان اليوم قد دخل في مهل زمنية محددة ليختار – أو لكي يُختار له – مصيره. ثمّة مهلة ماكرونية بدأ عدّها العكسي في الانتهاء، بانتظار الزيارة الجديدة للرئيس الفرنسي إلى لبنان، في ذكرى مئويته الأولى. وثمّة مهلة ترامبية، يراهن كثيرون عليها، ويحددون نقطة النهاية فيها بحلول موعد الثلاثاء الانتخابي الكبير في الولايات المتحدة، وهو بالمناسبة تحديد خاطئ، حتى وإن تغيّر ساكن البيت الأبيض، لا سيما أنّ ثمة أشهراً ثلاثة إضافية تفصل بين انتخاب الرئيس الجديد (المحتمل) وبين عملية التسلم والتسليم، وبين هاتين الفترتين ثمة قرارات كثيرة، وأحياناً مصيرية، يمكن ان تتخذ.
إذا سألتَ أيّ دبلوماسي عربي أو غربي أو شرقي اليوم، حصلت على أجوبة تكاد تكون منسّقة، جوهرها أنّ الأفق السياسي في لبنان مجهول، وأنّ المعضلة اللبنانية بات من الصعب التعامل معها، في ظل حالة من الجنون الداخلي تتقاطع مع متغيّرات الخارج، ابتداء من شرق البحر الأبيض المتوسط الغارق في الصراع الدولي على مكامن الغاز وطرق نقله، وصولاً إلى الخليج العربي الذي باتت خياراته الاقليمية أكثر وضوحاً على النحو الذي تبدّى في اتفاق السلام الأخير بين الإمارات واسرائيل.
كل ذلك، يؤكد، بما لا يحمل الشك، أنّ المنظومة السياسية التي حكمت لبنان منذ الطائف قد هُدمت بالفعل في انفجار المرفأ، بعدما تمكنت أعمدتها الراسخة من الصمود أمام زلزال العام 2005، وبعده زلزال العام 2006، وبعدها مجموعة الزلازل التي هزّت المنطقة العربية، ولا سيما سوريا، بعد العام 2011، ما يعني أنّ العقد السياسي الجديد الذي تحدّث عنه ماكرون لا يمكن أن يتحقق إلّا بضمان أن تؤدي التسوية الجديدة وظيفة إقليمية محددة للبنان.
بهذا المعنى، تصبح مسائل مثل التحقيق الدولي في ما حدث في مرفأ بيروت، وتقاطر البوارج والسفن الحربية إليه تحت عناوين «إنسانية»، أداة ضغط دولية لفرض هذا الدور الوظيفي، من بين أدوات ضغط أخرى، ابتداءً من وصفات العلاج للأزمة الاقتصادية، وصولاً إلى «تنفيذ العدالة» بعد الحكم الصادر عن المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتي ربط إحقاقها بـ«العيش المشترك».
هكذا يبدو اللعب في الوقت المستقطع مجرّد ترتيب للأوراق ضمن المعادلة الماكرونية نفسها – العقد السياسي الجديد في مقابل تغيير النظام – فالأول أدواته باتت واضحة، أي حكومة الاجماع الوطني أو حكومة الوحدة الوطنية، وهو لا ينتظر سوى تقديم العرض النهائي من الخارج للأسماء والآليات المحتملة، وقبل ذلك الدور الوظيفي للتسوية. أما الثاني، فقد بدأ التحضير له منذ فترة لكي يكون جاهزاً «غب الطلب» لو فشل خيار التسوية، إن لجهة الحديث المتجدد عن اللامركزية الموسّعة (إدارياً ومالياً) أو بإعادة طرح قضايا كانت، ولا تزال، عنواناً للانقسام الداخلي، ومن بينها فكرة الحياد التي يبدو أنها لم تعد مجرّد أفكار طوباوية.
هكذا يُراد أن يكون لبنان بين سندان تسوية تُعيد إحياء رميم منظومة حاكمة قتلت اللبنانيين ببطء طوال السنوات الثلاثين الماضية، ثم اختارت قتلهم بسلاح دمار شامل في الرابع من آب؛ وبين مطرقة فدراليات الطوائف التي من شأنها ان تؤدي الدور الوظيفي في مرحلة التحولات الإقليمية… لكنّ هناك خياراً ثالثاً، يتمثّل في «الدولة المدنية»، الذي وحده يمكن أن ينتزع لبنان من القدر المحتوم، لو قدّر له أن يتحول من مجرّد فكرة طوباوية الى طرح عملاني قابل للتحقيق.