كتبت رلى إبراهيم في صحيفة “الأخبار”:
لم يكن أحد ينتظر كارثة المرفأ للتيقن من عقم الدولة وأجهزتها. أسبوعان مرّا من دون مسح واضح للأضرار ولا تحديد لآلية التعويضات، فيما تُرك للدول المانحة وسفاراتها توزيع «خيراتها» على جمعيات ومنظمات تابعة لها، يعمد بعضها إلى العمل وفق أجندات خاصة وحتى مشبوهة
كأن حرباً طويلة مرّت من هنا. أبواب مشرّعة لما تبقى من منازل في الأحياء المواجهة للمرفأ، وجدران تصدّعت أو سقطت لتنكشف البيوت على البحر. في مبنى من أربع طبقات أخلاه ساكنوه، امرأة سبعينية رفضت المغادرة، وفضّلت البقاء في قطعة باطون متصدعة. أسبوعان مرّا على الانفجار قبل أن تمرّ بها الهيئة العليا للإغاثة وعناصر من الجيش. كشفوا على المكان ودوّنوا اسمها ورقم هاتفها… ورحلوا.
لا يملك أحد في الدولة اللبنانية جواباً عن سؤال متى سيتم التعويض على منكوبي كارثة الرابع من آب. أكثر من 15 يوماً مضت بعد الانفجار، ولا تزال الساعة متوقفة عند اليوم الأول. جلّ ما حدث إزالة الزجاح والركام من الشوارع لتتمكن السيارات من المرور. مبان مصنفة خطيرة وآيلة إلى الانهيار زُنِرت بشرائط، وبيوت ومحال شُرّعت على الملأ. البعض نزحوا إلى منازل أقارب لهم أو إلى قراهم. ما كان يجب أن يجري منذ اللحظة الأولى، فعلته الهيئة العليا للإغاثة رفعاً للعتب في الأيام الأخيرة، بنشرها رقماً للاتصال في حال احتاج أحد المتضررين إلى مأوى. وفي الأيام الأخيرة، أيضاً، باتت للجيش غرفة عمليات داخل بلدية بيروت للتنسيق بين كل الجهات العاملة في أعمال الإغاثة. في العادة، تقيّم الدول أداء أجهزتها ومؤسساتها خلال الأزمات. في لبنان، لم نكن بحاجة إلى أزمة للتيقن من عقم أجهزة الدولة. مليارات الدولارات صُرفت على الهيئة العليا للإغاثة التي تبيّن أنها مجرد جهاز صوري لا قدرة له حتى على إجراء مسح تقني دقيق، بل مجرد «طلّة» ومسح شكلي لا يمكنه فعلياً تحديد قيمة الأضرار. «أبلغونا أنهم سيتصلون بنا قريباً وبضرورة تصوير الأضرار والاحتفاظ بالفواتير في حال قررنا البدء بعملية الترميم على نفقتنا»، يقول صاحب أحد المطاعم. هنا، أيضاً، يبرز عدم الجدّية وغياب الحرص على المال العام. فمن يضمن عدم تضخيم بعض المتضررين لفواتيرهم؟ وهل يمكن أن تتحمّل الخزينة مزراب هدر إضافي؟
محافظ بيروت مروان عبود أوضح أن بلدية العاصمة تتولى تقييم المباني من الناحية الهندسية لجهة السلامة العامة، فيما تتولى الهيئة العليا للإغاثة عملية المسح لتحديد الأضرار والتعويضات، وتعمل نقابة المهندسين على المباني الأثرية بالتنسيق مع مديرية الآثار. وأضاف أن مكاتب هندسية تابعة للقطاع الخاص تطوّعت لتقديم المساعدة أيضاً، «وكل هذا العمل يصبّ في غرفة عمليات الجيش (المستحدثة في البلدية) التي تتولى التنسيق بين مختلف الجهات والمنظمات والأهالي». وأشار إلى أن جمعيات بدأت العمل على مستوى واسع، كجمعية «فرح العطاء» التي تبنّت ترميم حيّ كامل في منطقة المدوّر، وجمعيات أخرى تنفذ أعمال ترميم خفيفة كتركيب الزجاج والألمنيوم وأعمال الدهان. بحسب عبود، «يفترض أن يعود 50% من السكان إلى منازلهم قبل حلول الشتاء». لكن ما يحصل فعلياً على الأرض يشي بغير ذلك. أكثر من هذا، فإنّ كلام المحافظ يعني أن نصف المتضررين لن يعودوا إلى منازلهم قبل قدوم المطر!
نقيب المهندسين جاد تابت أشار إلى أن «الجيش يعدّ لائحة بالمباني التي تحتاج إلى تدعيم قبل الترميم. تلقينا أول لائحة من 70 مبنى»، و«عملنا يتركز على معالجة وضع المباني الأثرية وإنجاز دراسة التدعيم للحدّ من خطر السقوط». وأوضح أن نحو 80% من المباني المتضررة تحتاج إلى ترميم (زجاج وألومنيوم) ليتمكن سكّانها من العودة. لكن المشكلة الأساسية هي عدم توفر الأموال».
على أية حال، لا اعتمادات خُصصت للمنكوبين والمتضررين. وربما يعود جزء من هذا الإهمال إلى التعويل على المساعدات الدولية التي أعلن مانحوها، بالفم الملآن، أنها ستنتهي في أيدي منظمات وجمعيات لا في يد الدولة. والدولة هذه، التي أشهرت إفلاسها، تتصرف على أساس أنها مستقيلة من أدنى واجباتها. فشروط المانحين التي لا تخلو من ضغط سياسي، لا تعفي المسؤولين، في الحد الأدنى، من وضع مخططات واضحة لطريقة إعادة الإعمار وخطة شاملة تلزم الجمعيات والقطاع الخاص بالتقيد بها بغض النظر عن آلية التمويل والجهة التي ستدفع. غرفة العمليات المتقدمة التابعة للجيش، مثلاً، تعمل على «تقسيم الشوارع وفق قطاعات توزع على الجمعيات والمنظمات». لكن هذا التقسيم «ليس ملزماً بالطبع، إذ لا يمكن إجبار الجهات المانحة على التقيّد بمكان ننتقيه نحن» بحسب مصدر عسكري في الغرفة، مشيراً إلى أن «بواخر زجاج وألومنيوم تصل باستمرار إلى المنظمات»، أما المسح الرسمي فسيتم توضيبه في الأدراج «في حال إجا مصاري للدولة».
نصف المتضررين لن يعودوا إلى منازلهم قبل الشتاء المقبل!
يعني ذلك، عملياً، تشريع الأبواب أمام جمعيات ومنظمات، علماً أن بعضها «ينغل» منذ سنوات في المجتمع اللبناني ولا يخفي أهدافه السياسية. وقد لوحظ أن بعضها ينتقي منازل معينة لتقديم المساعدة من دون معايير واضحة، أو لأسباب سياسية وحزبية، فيما بعضها الآخر يعمد إلى طرق الأبواب ومسح الأضرار وتجميع الداتا من دون أن يكون معلوماً لمصلحة من. السفن والبواخر التي وصلت إلى مرفأ بيروت بعد الانفجار، وتلك التي ستصل في الأيام المقبلة، تذهب في الغالب إلى سفارات الدول المانحة، وتعمل هذه على المنظمات والجمعيات المرتبطة بها. والأخيرة، بدورها، تنتقي الأشخاص الذين تريد أن تنتهي المساعدات بين أيديهم. هكذا، خلقت الدول المانحة أجهزة تابعة لها حلّت محل المؤسسات الرسمية المتخصصة. وهنا يصبح الحديث عن غرفة عمليات للجيش لزوم ما لا يلزم طالما أن الأموال والمواد الأولية لا تسلّم إليه. لا يحدث أمر مماثل في أي بلد آخر باستثناء لبنان. عجز الدولة عن القيام بدورها بسبب عدم توفر الأموال والمساعدات شيء، وتشريع البلاد على وسعها للقيام بدور الدولة والإمعان في تدمير مؤسساتها أمر آخر.