Site icon IMLebanon

هل من “فخ” نُصب في حكم المحكمة؟

كتب جورج شاهين في صحيفة “الجمهورية”:

سال وسيسيل الحبر في مضمون الحكم الذي اصدرته المحكمة الخاصة. واياً كانت ردّات الفعل الفورية، فإنّها لن تنزع كونه نقلة نوعية من مكان الى آخر. فما هو مُنتظر في المراحل الإجبارية التي تليه، سيبقي الملف مفتوحاً في انتظار ما سيقود اليه أداء الحكم و«حزب الله» تجاه ما صدر، والتجاوب مع ما هو آتٍ. وعليه، هل هناك من فخ نُصب في القرار؟ وما الذي يشير اليه؟

كان من الطبيعي ان يتجدّد الانقسام بين اللبنانيين إزاء حكم المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولو لم يحصل ذلك لكان الامر غير طبيعي. ففي ردّات الفعل ما يكفي مما يمكن التوقف عنده، وخصوصاً انّ من راهنوا على تسييس المحكمة كانوا ينتظرون حكماً اكثر قساوة على المتهمين ومن وراءهم، من احزاب وربما دولة، مما توصلت اليه غرفة الدرجة الاولى، فيما كان المقتنعون بها ويراهنون على مهمتها، يتوقعون حكماً اوضح بكثير واكثر قساوة وتجريماً للمتهمين بمنفذ «جريمة العصر»، بعدما استُبعد ان يكون هناك سرّ إضافي يمكن الإشارة اليه، كان قد أُخفي عند صدور القرار الظني، لحماية مسار التحقيقات الجارية وشهود المحكمة الذين تحوّلت اسماؤهم «ارقاماً»، والذين يتمتعون بالحماية الخاصة، كما يقول بها قانون المحكمة والقوانين التي تحكم مهمتها.

على هذه الخلفيات، سقط رهان من اتهموا المحكمة بالتسييس، وأنّها اميركية الهوى والأداء، واحتفلت البيئة الحاضنة لهذه الجماعة بالمفرقعات النارية، وبموجة من الحملات التي خاضتها الجيوش الالكترونية على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي. كما سقط رهان المتحمسين لاتهام اقسى وأكثر دوياً، يغيّر في المقاييس التي حكمت الجريمة منذ وقوعها الى اليوم. وهو امر مبرر – بحسب رجال القانون الذين واكبوا المحكمة – لأنّه ينسحب على تمنيات الطرفين وتوقعاتهما في آن. فلم ينتظر اللبنانيون 11 عاماً على تشكيل المحكمة و15 اخرى على ارتكاب الجريمة، ليتبيّن انّ الشكوك في تصرفات المتهمين الخمسة وغيرهم كانت اكثر بكثير من الإثباتات، وانّ الجريمة قد تكون فردية، بعدما أُدين سليم عياش بمفرده من دون الاربعة المتبقين.

بالتأكيد، ليست المحكمة برئيسها وقضاتها هم المسؤولون، وهي التي اعتمدت نظاماً خاصاً بها لا سابق له في المحاكم الدولية، تحت شعار البحث عن الحقيقة وقطع الطريق على اي تدخّل سياسي في عملها، عندما تمّ الدمج بين القوانين الدولية واللبنانية، وتشكيل المحكمة من قضاة لبنانيين واجانب، رغم انّ كثيراً من اللبنانيين لم يصدّق اهمية هذه الخطوة وحجم تأثيرها، قبل التثبت مما آل اليه الحكم في محكمة الدرجة الأولى.

ولذلك، يقول احد الخبراء القانونيين، انّه كان على اللبنانيين من مختلف الفئات الهازئة والمرحّبة والمتردّدة في آن، ان يصدّقوا انّ المحكمة لا تراهن سوى على ما يثبت من الإتهامات بشكل لا يرقى اليه الشك. فالقانون الدولي الذي اعتمدته المحكمة لا يسمح بالتمادي في تشبيه الأدوار وتقديرها ما لم يثبت الجرم، وهو ما قاد الى تبرئة عدد من المتهمين. واعطى مثلاً على ذلك، عندما برأت المحكمة التي نظرت في قضية مقتل الاميرة ديانا وعشيقها دودي الفايد مصوري «الباباراتزي»، الذين اتُهموا بالمساهمة في الجريمة لمجرد انّهم كانوا «يطاردونها» من الفندق حيث كانت، في اتجاه أنفاق باريس حيث وقع الحادث، بتكليف من «دولة بريطانيا» بهدف «الحماية» قبل «المراقبة»، وأُطلق سراحهم في اليوم التالي.

وللإضاءة على مزيد من التجارب الشبيهة السابقة، فقد أعفت محكمة «نورمبورغ»، التي كانت تنظر في «المحرقة اليهودية»، من تهمة المشاركة فيها، كل من كان في صفوف المراقبين – الشهود، على ما سُمّي لاحقاً بـ «الإبادة». ومعهم من ساهموا في نقل المواطنين في الشاحنات والقوافل وتحميلهم، لجهلهم انّهم كانوا يُقادون الى المحارق. ومن بين هؤلاء، المحافظ نيقولا بورسييه. ومردّ ذلك، انّ القانون الدولي المشار اليه، لا يُعتبر مداناً إلّا من ساهم في ارتكاب الجريمة او تدخّل في مجرياتها مباشرة. وفي حال جريمة 14 شباط بقي على المحكمة ان تدين المتهمين المتورطين بالخطوات الأخيرة المرتبطة بتنفيذ العملية، سواء كانت انتحارية او بأي وسيلة اخرى . وهو ما يعني انّها لا تستطيع ان تتهم إلّا من ضغط على الزناد او شارك في خطوات عملية لها علاقة بالجريمة. وإن عفت من تهمة المشاركة فيها من راقب الرئيس الشهيد في بيروت وقبلها في فقرا وعلى الطرق ومحيط قصر قريطم وساحة النجمة، قبل لحظات من اغتياله، من المسؤولية المباشرة عن الجريمة. فهؤلاء، بحسب مفهوم القانون الدولي، مبرؤون عملاً بمبدأ انتفاء «الرابطة السببية» بين المتهم والجريمة.

على هذه الأسس كان على اللبنانيين فهم قوانين المحكمة وآلية العمل، قبل الحكم على النتائج. وان انتقل البحث الى مرحلة لاحقة تبدو فيها الافخاخ موجودة بين سطور الحكم ومقاطعه. ولذلك، فإنّ الحديث عن تبرئة المتهمين قد يقود الى نوع من التعويض الذي يستحقه البعض منهم، جراء ما طاولتهم المعلومات التي تسرّبت من اروقة المحكمة والتحقيق من تشويه لسمعتهم، وهو أمر دقيق جداً. ذلك انّه – وحسب احد خبراء المحكمة القانونيين- فإنّ اي مراجعة من هذا النوع يقوم بها المتهمون المبرؤون سيشكّل اعترافاً بقرار المحكمة كاملاً. وهو ما ينسحب على موقف الحزب او الجهة التي ترفض الاعتراف بها. وبالتالي سيكون عليها، ان ارادت الإستفادة من تعويضات المحكمة وفق الآلية المحكي عنها في نظامها، ان تشكّل سقطة كبيرة تعيد خلط الاوراق مجدداً، وهو امر مستبعد للغاية، خصوصاً ان استفاد البعض من «حق الدفاع» وتثمير الضمانات التي أُعطيت للمتهمين المبرئين.

وعليه، وان كان واضحاً انّ «حزب الله» الذي لم يعترف يوماً بالمحكمة وآلية العمل فيها، لن يُقدم على اي خطوة من هذا النوع. وانّ الأنظار ستتجّه ايضاً الى ما يمكن ان يُقدم عليه الضباط اللبنانيون الأربعة، الذين اوقفوا لفترة من الزمن بالتهمة عينها، بحيث من الصعب ان ينالوا مثل هذه التعويضات، لارتباط توقيفهم بعدم كفاية الدليل. فـ «البراءة في المحاكم الجنائية ليست ابراء» وخصوصاً ان كان لعدم كفاية الدليل.

واخيراً، لا بدّ من تسخيف من يعتقد انّ تبرئة عدد من المتهمين بارتكاب الجريمة وتجريم احدهم يشكّل تخفيفاً من التهمة الملحقة بالحزب او بالمجموعة المنفذة للجريمة. ففي السياسة لن يكون هناك اي فارق بين اتهام واحد، قيل انّه من «حزب الله» او اربعة او خمسة من اعضائه. وان تمّ تسليمه – رغم استبعاد الخطوة – فستُعاد المحاكمة مجدّداً. وما أدراكم ما يمكن ان يقود اليه هذا السيناريو ولو كان وهمياً.