Site icon IMLebanon

طريق “العودة” إلى بيروت المنكوبة

كتبت جويل رياشي في “الأنباء الكويتية”: 

لا بأس، سأذهب من هناك. قد مضى اسبوعان على فاجعة بيروت ولابد ان يكون المشهد اقل قساوة. صحيح انني لست جاهزة نفسيا، ولكنني سأفعلها.

سأسلك طريق الدورة الكرنتينا الصيفي ثم اكمل صعودا إلى الاشرفية، السوديكو، ومنها الى طريق الشام، حيث مقر عملي. هذا طريقي يوميا، تفاديته في الاسبوعين الاخيرين كمن يؤجل موعدا يتمنى ان يلغيه القدر. اليوم كان الطريق البديل الذي اخترته شبه مقطوع بالشاحنات. حسنا سأستعيد طريقي، سأمرّ بمحاذاة مرفأ بيروت.

الفكرة اربكتني ولكن يجب ان اذهب الى المكتب. وصلت بأقل من دقيقتين الى الكرنتينا وبدأت المشاهد تتدفق من دون استئذان، لا ادري كيف بدأت سيارتي تقود ذاتها بعدما خرجت عيناي منها وفقدت تركيزي، وتحولت الى شبح مسير.

دخلت في فيلم الرعب الذي رأيت «الترايلر» الخاص به على التلفزيون، استعدت قول اخي «الحكي مش متل الشوفة»… فالتلفزيون وإن تحول الى «تلفزيون واقع» يحافظ على مسافة آمنة (نوعا ما) بينك وبينه، تلك المسافة التي كنت ارفض عبورها، وها أنا الآن في وسطها.

بدت لي المباني أشباحا كتلك التي تأتي في منامات الاطفال. بدا لي الدمار غيمة سوداء كتلك التي تسبق انفجار السماء بالعواصف. بدت لي زحمة السير كمشهد مركب فوق المشهد الاساسي. فجأة، عادت بي الذاكرة الى شباط 1990 حين هربنا في غفلة «وقف اطلاق نار» من الطريق الموازي (اي طريق النهر او ما يعرف بالمطاحن) خروجاً من بيروت وكانت سيارة أبي تسير ببطء سلحفاة عجوز خوفا من الالغام المزروعة هنا وهناك، وكأن الألغام التي زالت من جوانب الطرقات، بقيت مزروعة في نفوسنا، وها هو الخوف من انفجارها يعود من جديد ليطفو على سطح مأساة بيروت المدمرة.

هذه المدينة ارتدت ثوبا آخر. نعرف هذا الثوب جيدا، ولشدة ما نعرفه ونخافه، كنا قد دفناه مع ذكريات الحرب والاقتتال. لماذا يا بيروت؟ لماذا ألبسوكِ هذا الثوب من جديد؟

الشجرة الضخمة المقابلة لبيت الكتائب لا تزال هنا، اردت ان اتأملها لوقت اطول ولكن السير «فتح»… ويا ليته ما «فتح» وما رأيت مبنى «النهار» متطايرا يكاد ينطق ويقول «كفى». هذا المبنى رأى الكثير، اظن انه اكتفى.

صعودا الى برج الغزال، بدأت الغشاوة تنقشع عن عينيّ ورحت استجمع انفاسي. وصلت الى «شارع لبنان»، أردت ان اعاين مبنيين: بيت الزهر الخاص بكارلوس غصن وبعده بيت «المدير» فرنسوا عقل. لم اتمكن من ذلك، كان الجيش يقطع الطريق تسهيلا لاعمال ازالة الردم والتنظيف. السير محول، تهت في شوارع الاشرفية وكأنني ازورها للمرة الاولى! اعرفها جيدا ولكن تقطيع اوصالها أربكني.

حدث ذلك كله في عشرين دقيقة. وصلت الى المكتب وكأنني آتية من ساحة معركة، معركة داخلية مع ذكريات الحرب والدمار والخوف. «انا من بلد الشبابيك المجروحة بالحب»، تقول فيروز، اما انا، فمن بلد الشبابيك المشلعة والبيوت المدمرة والقتلى المسحولين تحتها.