قفزت الطبقة السياسية بعيدا فوق صرخات الناس الناقمين عليها وعادت إلى مربعات التأليف الحكومي المعنادة وكأن شيئا لم يكن. ذلك أن بين شروط الشكل والمضمون والمهمة المنوطة بالحكومة العتيدة، سارع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله إلى رسم حدود عملية التشكيل، وإن كان ذلك يعني تأخير ولادة الحكومة إلى ما بعد زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون المنتظرة في الأول من أيلول المقبل. ذلك أن الرجل رسم المعادلة بوضوح: “لا نؤمن بوجود مستقلين في لبنان”. تبعا لذلك، أدار رئيس المجلس محركاته السياسية آملا في النجاح في إعادة الرئيس سعد الحريري إلى السراي، مع العلم أن زعيم بيت الوسط متمسك بشروطه المعروفة لقبول التكليف، على رأسها تشكيل حكومة من المستقلين، على ألا يشارك فيها رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ولا حزب الله، في وقت نسف باسيل جهود بري بإبلاغه أمس أن لا اجماع حول الحريري لرئاسة الحكومة. وفي ذلك تلميح إلى أن بعبدا لن تسير بهذا الخيار، بعدما باغتها الحريري بالاستقالة مستجيبا للصرخات الثائرة في تشرين الأول الفائت.
وفي قراءة لهذا المشهد، دعت مصادر سياسية مراقبة عبر “المركزية” إلى التنبه إلى توقيت موقف حزب الله الذي رمى إلى إرسال إشارة ايجابية إلى الحريري، قابلها الأخير في كلمته المقتضبة من لاهاي. ذلك أنه احتوى الغضب الشعبي ولم يقطع نهائيا خيط العلاقة مع الضاحية، بل اشترط تسليم المتهم بإغتيال والده، سليم عياش، ليبنى على الشيء مقتضاه. وبين سطور الموقفين تأكيد أن الحزب لا يمانع عودة الحريري إلى السراي، وإن كان يتحاشى المجاهرة بتأييد هذا الخيار، تاركا للرئيس بري التعبير عن هذا الموقف، وهو ما دأب عليه رئيس المجلس منذ استقالة الرئيس حسان دياب قبل أسبوعين.
وفي وقت تحذ ر المصادر من أن العودة إلى حكومة الوحدة الوطنية في هذا التوقيت يعني انتحارا سياسيا للبلاد التي لا يمكن أن تعود دورة الحياة فيها إلى طبيعتها بلا إصلاحات، أكدت أن حزب الله لن يتراجع في القريب العاجل عن هذا الخيار، لا لشيء إلا لتأمين مكسب سياسي مهم له في زمن التسويات، خصوصا أن التجربة علمته أن في إمكانه السيطرة على القرار الرسمي من خلال الرئاسات الثلاث. إلى هذه الصورة أضافت المصادر عاملا مهما يكمن في إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومنافسه الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية جو بايدن أنهما مستعدان لدرس اتفاق نووي جديد مع ايران، ما يعني أن محور الممانعة قد يخسر هدفا استراتيجيا مهما قد يسعى الحزب إلى تعويضه مستفيدا من حرب تناتش الحصص المعهودة وخلاف الاصلاحات، اللذين قد يجعلان الرئيس دياب يصرف الأعمال حتى نهاية العهد، على ما يتخوف منه البعض.