كتب عمّار نعمة في “اللواء”:
مع كل تطور جديد في لبنان والمنطقة، تقف الطائفة السنيّة متأملة بغضب يتحول مع الوقت الى حزن ولدى بعض الشرائح الى شبه يأس، واقعاً بات فيه السنّة شبه يتامى وسط شعور بالإحباط، بينما تصاعد نفوذ لاعبين آخرين هيمنوا من خلاله على نفوذ تلك الطائفة في اللعبة السياسية اللبنانية.
والحال أن قرار المحكمة الدولية بإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري لم يأت سوى ليعزز هذا الشعور وليزيد من التساؤلات حول متى يمكن للسنة اللبنانيين الخروج من نفق طويل لم يكن من صنعهم لوحدهم.
يشير البعض الى حالة تيه يمر فيها هؤلاء مستمرة منذ سنوات طويلة، قد يكون إغتيال الحريري شكل فاتحتها، ثم لخصتها أحداث الإقليم كما في سوريا والخليج والعراق، ولعل بعضها يعود الى طبيعة سنة المدن في لبنان غير النازعة الى الإقتتال الأهلي ما ادى الى عدم التربح السياسي منه.
تشير قراءة للبعض من خارج الإصطفافات السنية التقليدية في لبنان، الى أنه قد لا يكون ممكناً فصل هذا الإحباط عن غياب مرجعية خارجية قوية وموحدة تحتضن أبناء هذه الطائفة محليا، في وجه مشروع شيعي منظم أكثر مراساً وتبدو أهدافه أكثر وضوحاً تقدم في المنطقة.
ولعل التطورات التي شهدتها السنوات الأخيرة تروي الكثير عن النزاع السني السني في الإقليم والذي تمخضت عنه صدامات غير مباشرة بين محور عربي رسمي قوامه السعودية ومصر والإمارات ومعها دول أخرى كالبحرين، وآخر تقوده تركيا ويستند الى الحزب الأكبر في العالم العربي «الإخوان المسلمين» بدعم قطري لا متناهي.
يشعر المحور الأول بخطورة جدية على مجتمعاته من الإسلام السياسي وتغلغل «الإخوان» ليتمكنوا يوما من الوصول الى الرئاسة المصرية، بينما يرى المحور الآخر أنه يمثل امتدادا للمشروع المقاوم والداعم للقضية الفلسطينية متبنياً «الربيع العربي»، ويرى في الرئيس التركي رجل طيب أردوغان زعيما لأمة تفتقد الى المرجعية.
دور المرجعية
مهما كان الأمر، فإن التنافس بين هذين المحورين شكل الأولوية لهما في رسم النفوذ من ليبيا شرقي العالم العربي امتدادا نحو سوريا والخليج غرباً، بينما نُحي «الخطر الإيراني» جانباً في هذه اللحظة.
والواقع أن سنة لبنان قد حظيوا باحتضان عربي على مر العقود الماضية. ففي السابق، تحديدا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، توجهت عواطف سنة لبنان نحو الزعامة الناصرية التي ورثها الوجود الفلسطيني ومنظمات حليفة في السبعينيات والثمانينيات، وإن لم يدع المشروعان الى مرجعية سنية ضيقة بل ناديا بمشروع عربي مقاوم تحت شعار حرية العرب والقضية الفلسطينية.
وبعد فترة فراغ لسنوات، برزت الحريرية الإقتصادية والسياسية باحتضان سعودي التي شكلت مرحلة التسعينيات أوجها حتى إغتيال الحريري في العام 2005. منذ ذلك الحين، إلتهبت المشاعر السنية لتُعمد سعد الحريري زعيماً عبر مراحل متفاوتة كان عليه خلاها عقد التفاهمات الصعبة وحصل بعضها مع متهمين من قبل بيئته بقتل والده.
شرع الحريري، بدعم مرجعي، بتحييد القضايا النزاعية مع الطرف الشيعي الأقوى «حزب الله»: المحكمة الدولية، السلاح والنزاع في سوريا.
العودة حاجة
واليوم، ثمة تساؤلات حول إستمرار تمتع الحريري بالدعم السعودي اللازم لعودته الى رئاسة الحكومة، وبعد قرار المحكمة الدولية الذي جاء مخيبا لشرائح واسعة في بيئته، لا تزال عودته، أو من يزكيه، ضرورية لكنه يحتاج الى إحتضان خارجي مرجعي. وهو يحتاج الى هذه العودة على الصعيد الشخصي والسياسي، فـ«تيار المستقبل» يستمر في صدارة الأطراف السنية، لكن الفجوة التي كانت تفصله عن الآخرين تتقلص مع الوقت كما أنها تضررت كغيرها من صدى إنتفاضة 17 تشرين التي كان الحريري أول الساقطين عبرها.
على أن زعيم «المستقبل» ليس ضرورة لطائفته فقط، بل بات حاجة أيضا أكثر مما سبق لأخصامه الذين حاولوا ثنيه عن قرار الإنكفاء ماضيا عن الساحة مثل «حزب الله» والرئيس نبيه بري وحتى الرئيس ميشال عون. والواقع أن الأخصام يخشون على صوت الإعتدال في الطائفة السنية الذي خرج بكلام مسؤول مع حكم المحكمة الدولية، مثلما يحتاجون الى شخصية في رئاسة الحكومة تُسهل تدفق المساعدات الخارجية التي لا نهوض للبنان من دونها، وخاصة على صعيد تطمين الجانب العربي الخليجي.
لكن عودة الحريري أو من يمثله ليست مقتصرة على التزكية السعودية والغربية، ذلك أن زعيم «المستقبل» الذي رفضه شارع 17 تشرين قد يعود الى التحرك ضده من جديد، وإن تغيرت الظروف وبَرُد المد الشعبي.
وفي حال عودته الى رئاسة الحكومة بقناع سني عبر شخصية يزكيها أو يوافق عليها، سيكون عليه تمرير المرحلة وإعادة تعزيز عمقه الخارجي، السعودي خصوصا، سياسيا وماديا، وتبني المطالب الشعبية التي فتح تاريخ 17 تشرين مرحلة جديدة لها.
ستكون فترة صعبة عليه لمحاولة إستعادة الشعبية الماضية في مقابل مرجعية شيعية متماسكة، وأفرقاء مسيحيين يحظون بدعم اللاعبين المحليين والخارجيين. فجمهوره لا يريد اليوم صداماً، وقد سلّم بمرارة بحكم المحكمة الدولية في وجه خصم قوي ومسلح وفي ظل تراجع إقليمي يقترب الى الإنكفاء.
ويرى البعض أن على الحريري فتح الباب أمام تعددية ما في تلك الساحة وعدم إختزالها كما في الماضي وهو ما سيفيده شعبيا وسيعبد الطريق أمام مشروع موحد للطائفة، إجتماعي وإقتصادي وسياسي، يلتفت الى أولويات مصالح الناس. كما أن عليه التأكيد على الدور التاريخي للسنة في لبنان الذي يحفظ وحدة البلاد في وجه دعوات تقسيم وفيدرالية، ويتصدى للفتنة المذهبية المتنقلة التي، وإن بدت خامدة، فإنها قد تستعر من جديد مع تغيّر الظروف.
وإذا ما اقترن ذلك مع تدفق المساعدات الدولية التي كانت الحريرية الدافع الأهم لها منذ زمن، يستطيع زعيم «المستقبل» عبر واقعيته السياسية التي تميز ووالده بها دوماً، الشروع في خارطة الطريق هذه لكي يعبر وطائفته مرحلة التيه، ليشكل ذلك بارقة أمل للإدعاء فعلاً أن الإحباط الحاصل.. ليس قدراً!