كتب عماد مرمل في “الجمهورية”:
على الرغم من فداحة الكارثة التي اصابت بيروت، وعلى الرغم من خطورة الأزمة الاقتصادية المتمادية.. لا يزال إيقاع تشكيل الحكومة بطيئاً وبارداً، بخلاف ما تقتضيه التحدّيات الضخمة من استعجال وتنازلات، لحصر الخسائر في كل المجالات.
أمام تشابك التعقيدات وتباين الحسابات، لا يبدو الرئيس ميشال عون في وارد تحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة قبل تأمين التوافق او الأكثرية حول اسم الرئيس المكلّف، وبالتالي فهو يعتبر انّ المطلوب استشارات سريعة ولكن غير متسارعة، «لأنّ الظرف الحالي لا يسمح بترف التجارب المرتجلة التي من شأنها ان تؤدي إلى تناثر أصوات النواب في اتجاهات عدة، بحيث قد لا يحصل اي اسم على الأغلبية المطلوبة لتكليفه، مع ما سيعنيه ذلك من انتكاسة في الداخل وإشارة سلبية الى الخارج».
بهذا المعنى، يكون عون قد قرّر مرة أخرى ان يخوض معركة تشكيل الحكومة، مستنداً الى خط دفاع اول يتمثل في تحكّمه بتوقيت استخدام صلاحيته الدستورية في الدعوة إلى الاستشارات النيابية التي لم تعد مسألة اوتوماتيكية، بينما يشكّل توقيعه الإلزامي على مرسوم تشكيل الحكومة خط الدفاع الثاني، الذي سيتحصّن عون خلفه عند الانتقال لاحقاً من مرحلة التكليف الى طور التأليف.
لكن سلاح الوقت يضغط على عون، وهو يعرف جيداً انّ الازمات المتفاقمة، خصوصاً عقب انفجار المرفأ، لا تمنح مساحة كبيرة للتكتيكات السياسية والتفاوضية، لاسيما انّ المحيطين به يؤكّدون انّه يراهن على الثلث الأخير من عهده لصنع الفارق الإيجابي، وهذا مؤداه، انّ كل يوم يمر من دون وجود حكومة اصيلة يشكّل خسارة له وللجمهورية.
َومع ذلك، يرفض عون ان يدفعه ضغط الوقت والازمات الى التسليم بخيار عودة الرئيس سعد الحريري، الذي تعتبره بعبدا غير مطابق للمواصفات المطلوبة في هذا الظرف الاستثنائي، ولا يشبه المرحلة.
ولعلّ «الحكم البارد» الذي اصدرته المحكمة الدولية خفف من حاجة عون، وربما «حزب الله» ايضاً، إلى دور الحريري كصمّام أمان في مواجهة خطر الفتنة والفوضى، إذ انّ ضربة كف واحدة لم تُسجّل بعد صدور الحكم، وبالتالي انتفت فرضية المقايضة التي كان يروّج لها البعض، على قاعدة تثبيت الاستقرار الداخلي وربط النزاع في مقابل القبول بتولي الحريري رئاسة الحكومة من دون قيد او شرط.
وما يعزز موقف عون الرافض لخيار الحريري، كما يوضح المطلعون، هو انّه تبيّن للقصر الجمهوري انّ رئيس «تيار المستقبل» يفتقر في آن واحد الى دعم الجزء الاكبر من الحراك المدني، وأغلب المكونات السياسية الاساسية، وكذلك القوى الخارجية المؤثرة التي لم تمنحه «اصواتها». ووفق بوانتاج قصر بعبدا، هناك اعتراض على تكليف الحريري من جبران باسيل وسليمان فرنجية وسمير جعجع ووليد جنبلاط وطلال أرسلان، إضافة إلى غياب تأييد مراكز الثقل الخارجية له، وتحديداً واشنطن وباريس والرياض.
«وحده الرئيس نبيه بري يقاتل من أجل عودة الحريري». هذا هو الانطباع السائد في القصر الجمهوري، الذي ترى اوساطه انّ إحداث خرق في الدائرة المفرغة بات يتطلب واحداً من امرين: اما ان يتراجع المعترضون على اسم الحريري، واما ان يتخلّى بري عن دعمه له.
ويرتكز عون في مسعاه لاستبعاد الحريري الى اقتناعه بأنّ مبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لا تروّج لحكومة وحدة وطنية، بل انّ اوساط القصر الجمهوري تجزم بأنّ ماكرون قصَد اجراء اوسع تشاور وطني يمهّد لحكومة تحظى بأوسع قبول ممكن.
ويدعو عون من يعنيهم الأمر، كما تنقل عنه الاوساط القريبة، إلى أن يقتدوا برئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، الذي «جاهر صراحة وعلناً بأنّه لا يريد المشاركة في الحكومة الجديدة، من أجل تسهيل ولادتها ومهمتها».
ولكن، هل من بديل عن رئيس «المستقبل» لدى رئيس الجمهورية؟
يؤكّد عون، وفق القريبين منه، ان «ليس مقبولاً تشكيل الحكومة الجديدة على اساس التوليفة القديمة التي كانت تُتبع في تأليف الحكومات، إذ انّ ما كان يصح قبل تفجير المرفأ بات لا يصح بعده، واللبنانيون لن يتقبلوا عقب هذه الفاجعة إحياء النهج السابق في التأليف والرجوع إلى التركيبات المعلّبة بوجوهها المستفزة وكأن شيئاً لم يحدث».
وانطلاقاً من تلك المقاربة يرى عون، تبعاً للمطلعين على موقفه، انّه لا يجوز تجاهل العصف السياسي لانفجار المرفأ، الذي نسف النمط التقليدي في حياكة الحكومة، «وبالتالي يجب ان يدرك جميع المعنيين بتشكيلها، انّ ما قبل 4 آب ليس كما بعده، واننا لم نعد وحدنا في المعادلة وفي الملعب، بل أصبح يوجد لنا شريكان لا يمكن القفز فوقهما، هما المجتمع المدني والمجتمع الدولي».
وقد مهّد عون لهذا الطرح من خلال نشر تغريدة رئاسية عبر «تويتر» اخيراً، أوضح فيها انّه يدعو ويسعى الى ان يتمثل المجتمع المدني في الحكومة المقبلة.
ويميل عون بحسب العارفين، الى الدفع نحو تشكيل حكومة تكنو- سياسية برئاسة قاضٍ من بين القضاة السنّة الذين يملكون الصدقية والنزاهة، وبعضوية وزراء من أصحاب الكف النظيف والخبرة الوافية، لأنّ الإصلاح يتطلب، في رأيه، شخصيات تتوافر لديها القدرة على تحقيقه وليس فقط النية.
ويلفت هؤلاء، الى انّ عون يريد أن يكون الثلث الأخير من ولايته الرئاسية مدموغاً بختم الاصلاحات الضرورية والحيوية، مستفيداً من الاندفاعة القوية للمجتمع الدولي في هذا الاتجاه، خصوصاً الطرف الفرنسي، مع أمله في أن يواكب الإنجاز الإصلاحي إتمام التدقيق المالي الجنائي في حسابات مصرف لبنان، والذي سيوقّع عقد اجرائه اليوم.
َيشعر عون انّ الوقت الدولي المستقطع- في انتظار تبيان احتمالات ابرام تفاهم إيراني – أميركي من عدمها- هو ثمين، وينبغي الاستفادة منه لبنانياً حتى أقصى الحدود، عبر ملئه بالإصلاحات التي تأخّرت كثيراً، لاسيما مع بروز إشارات دولية مشجعة، من قبيل تصريح ديفيد هيل، بأنّ واشنطن مستعدة لمساعدة حكومة لبنانية قادرة على تحقيق الإصلاحات بوجود «حزب الله» او عدمه، وانفتاح باريس على الحزب، والذي عكسته خلوتان بين ماكرون ورئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» محمد رعد خلال زيارة الرئيس الفرنسي الى بيروت.