كتب ايليا ج. مغناير في صحيفة الراي:
كانت الولايات المتحدة – التي تساهم في الميزانية السنوية لـ«اليونيفيل» بمبلغ 135 مليون دولار (تمثّل 27 في المئة من مجموع الاحتياجات السنوية) – تهدّد بسحب هذا التمويل، إذا لم تُعدَّل مهمة القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان، وتأخذ دور الباحث عن أي مستودع سلاح وقدرات عسكرية منتشرة على طول الحدود اللبنانية، خصوصاً الحافة الأمامية المجابهة لإسرائيل.
إلا أن تعديل مهمة «اليونيفيل» لم يَعُدْ مطروحاً بقوة، بل ضعفت اندفاعته بعد صدور قرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في جريمة اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، والذي اعتبره العديد من اللبنانيين مُخَيِّباً للآمال، خصوصاً أن الساحة اللبنانية كانت تُحضَّر لانقلابٍ على الحكومة – التي سقطت – وعلى البرلمان لإسقاط عهد الرئيس ميشال عون… فما هو مصير «اليونيفيل» في لبنان؟
ليس هناك أدنى شك لدى العديد من المراقبين، أن اغتيال الحريري أعقبه وَضْعٌ داخلي انقلب على «محور المقاومة» وأَنْتَجَ خروجَ القوات السورية من لبنان ومهّد لحرب يوليو 2006 الثانية التي فشلتْ في تحقيق أهدافها.
وبعد فشل سحْب سلاح «حزب الله» جرت محاولةٌ أخرى لإضعافه باغتيال قائده العسكري ونائب المجلس الجهادي العسكري العام الذي يترأسه الأمين العام السيد حسن نصرالله، الحاج عماد مغنية في فبراير 2008. إلا أن اغتيال قادة التنظيمات الجهادية لم يكن يوماً طريقاً مناسباً لإضعاف «حزب الله».
لكن المُوالين لأميركا في لبنان اتخذوا قراراً آخَر يقضي بنزْع وسائل الاتصالات الخاصة التي يستخدمها «حزب الله» والتي تمثّل عَصَبَ «القيادة والسيطرة» لكشف أسرار الحزب وإعمائه في حال نشوب حرب أخرى.
وقد أثبت الحزب أثناء حرب 2006 قدرتَه على التواصل رغم السيطرة الإسرائيلية على الاتصالات اللبنانية الخلوية ووصولها إلى التنصت على الخطوط الأرضية. وهذه السيطرة كان من شأنها أن تحدّد أماكن الاتصال وتالياً تضرب جميع مكاتب ومخازن وقادة وأفراد «حزب الله» وتقضي عليهم.
وردّ «حزب الله» في 7 مايو 2008 بـ«السيطرة» على مدينة بيروت وثبّت فيها «خطوطَه الحمر»، بعدما كان حذّر من أن المساس بها يُعتبر بمثابة «إعلان حرب»، كما أظهرتْه وثائق المراسلات بين السفارة الأميركية في لبنان وواشنطن والتي كشف عنها موقع «ويكيليكس».
ولم تتوقف المحاولةُ الدولية لحشْر «حزب الله» أو سحْب سلاحِه الذي تَضاعَفَتْ كميّتُه وقدرتُه الصاروخية وأصبح يمثّل خطراً حقيقياً على إسرائيل. فبدأت الحربُ السورية العام 2011 التي وَعَدَت فيها المعارضة منذ الأيام الأولى بأن وجْهتها المقبلة هي لبنان وقطْع الطريق على تمويل «حزب الله» الذي يمرّ عبر مطار ومرافئ سورية.
وكان القرار 1701 الذي صَدَرَ العام 2006 يعطي الصلاحية لـ «اليونيفيل»، بمؤازرة الجيش اللبناني وحكومته، للاطلاع على محتويات الحاويات والشحنات التي تصل إلى لبنان للتأكد من أنها لا تحمل سلاحاً أو ذخائر لـ«حزب الله».
وتالياً لم يعد للحزب إلا تَسَلُّم دعْمه عن طريق سورية، الرئة الوحيدة المتبقية، وفَشِلَ قرارُ تحويل سورية «دولةً فاشلة». وبالتالي لم يبقَ سوى العقوبات الاقتصادية على إيران – مصدر الدعم الرئيسي لـ «حزب الله» – وعلى لبنان لإضعافه واتهام التنظيم بأنه السبب وراء أزمة «بلاد الأرز».
إلا أن عقوداً من الفساد والعقوبات الأميركية كشفتْ للعلن أن لبنان بحاجة إلى عشرات المليارات من الدولارات التي لم يعد يملكها ما سيؤدي به إلى أحضان التصنيف كـ«دولة فاشلة» في الأشهر أو السنة المقبلة، ما لم تتدارك الدول هذا الخطر الآتي. فلبنان لم يعد يملك ما يكفيه من العملة الأجنبية لدعم الدواء والغذاء حتى أواخر هذه السنة ولا يستطيع دفع ديونه الخارجية ويبلغ عجزه عشرات المليارات من الدولارات.
وقد أقرّ السفير الأميركي السابق جيفري فيلتمان في شهادته أمام لجنة الكونغرس الأميركي العام 2010 بأن دولتَه أنفقت 500 مليون دولار لضرْب صورة «حزب الله» من دون أن يؤدي ذلك إلى النتيجة المرجوّة. إلا أن الإنفاق الأميركي ودعْمه لكل مَن تطوّع بالوقوف ضد «حزب الله» في الداخل قد أثمر بعض النتائج وأَحْدَثَ شرْخاً في لبنان لم يعُد يخفى على أحد.
وأتى انفجار المرفأ في الرابع من أغسطس – الذي نَتَجَ عن إهمال وتَقاذُف المسؤولية بين الأمنيين والقضاء – ليقدّم فرصة أخرى للمعسكر الأميركي في لبنان. فتوجّهت الاتهامات إلى «حزب الله» قبل التحقيق الرسمي وذهبتْ الأمور إلى إفشال دور الحكومة واحتلال وزارات الخارجية والاقتصاد والبيئة، وبدأت استقالات بعض النواب بإظهار خطة أخرى لإسقاط مجلس النواب.
وبرز العميد المتقاعد جورج نادر، الذي تلا بيانه الرقم واحد من وزارة الخارجية. إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل الذريع والسريع، بعد بضع ساعات فقط، ليبقى الأمل بإسقاط لبنان على يد «اليونيفيل» وتطوير مهماتها وعلى قرار المحكمة الدولية التي أرجئ حُكْمُها من 7 إلى 18 أغسطس.
إلا أن حُكْم المحكمة – التي أنفقت أقلّ من مليار دولار و15 عاماً من التحقيقات – أصاب كل المعوّلين عليها بالصدمة بعدما أعطتْ البراءة للحزب وسورية في صفحاتها الـ 2638 واعتبرتْهما غير مسؤولين عن الجريمة. ولم تذكر المحكمة شهود الزور اللبنانيين والسوريين الـ 15 ولا تضليل التحقيق طوال هذه السنوات.
وحضر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان من دون تفويض – ولكن بتنسيق واضح – أميركي في محاولةٍ لمنع سقوط البلاد في يد الصين وإيران وروسيا لإعادة إعمارها. واجتمع – للمرة الأولى بتاريخ أي رئيس فرنسي – أوروبي – مع رئيس كتلة «حزب الله» البرلمانية على انفراد مرتين «ليؤكد له ضرورة مشاركة الحزب في الحكومة المقبلة ومساعدة لبنان على الخروج من أزمته من خلال التعاون مع جميع الفرقاء السياسيين»، كما قالت مصادر مطلعة لـ «الراي».
إلا أن استقالة الحكومة لن تولد حكومة أخرى بهذه السهولة ولا بحلول بداية سبتمبر المقبل، كما تمنى ماكرون، ولكن ستزيد الشرخ بين اللبنانيين الذين يَبدون مشرذَمين أكثر من أي وقت.
وهكذا فشل الانقلاب السياسي ولم يعد التعويل على توسيع صلاحية «اليونيفيل» كخطة بديلة ناجحة، لأن هذه الصلاحية كان من المفترض أن تأتي ضمن مجموعة تدابير لإسقاط لبنان. إلا أنها كلها فشلت كما سيفشل التجديد المشروط للقوات الدولية وستبقى الأمور كما هي حتى آخِر هذا الشهر، موعد التجديد لها.
وإذا أرادت أميركا سحْب هذه القوة، سترفض إسرائيل ذلك وتقْنعها بعكس ذلك لأنها بحاجة إلى قوة دولية على المقلب الآخر من الحدود، وبالتالي فإن بقاءها أفضل من لا شيء.
وهكذا يبقى لبنان في مهب الريح ينتظر خطوات أخرى لنزْع الأكثرية البرلمانية عن «محور المقاومة» وحلفائه ليصار إلى اتخاذ خطوات أخرى من شأنها قلب الطاولة لمصلحة أميركا. إلا أن المقلب الآخَر المعادي للولايات المتحدة من الصعب أن يقف متفرّجاً.