بهجمة مرتدة سريعة “قَوْطَب” فيها على الخطة العونية الهادفة إلى إحراجه وإخراجه من ملعب الاستشارات بنتيجة نيابية هزيلة، أعاد سعد الحريري تسديد كرة التعطيل في شباك العهد مجهضاً محاولات التسلل من وراء خطوط الدفاع السنّية باتجاه السراي خارج مربع الأطر الدستورية المرسومة لعملية تشكيل الحكومات. فبينما مؤشرات البلد تنذر جميعها بانهيار شامل وشيك، اقتصادياً ومالياً واجتماعياً وكورونياً، مع إعلان حاكم المصرف المركزي بدء العد العكسي لوقف الدعم عن السلع الأساسية، وتسجيل ارتفاع قياسي بمعدل الوفيات اليومية جراء الوباء بلغ 12 شخصاً أمس، كان رئيس الجمهورية ميشال عون منهمكاً في إعداد العدة وشحذ “المقصلة” لإقصاء الحريري عن الرئاسة الثالثة، غير أنّ الأخير عاجله ببيان أنهى “بازار الابتزاز” العوني المفتوح على استنزاف الوقت والفرص بإعلانه جهاراً عدم الترشح لرئاسة الحكومة الجديدة، ليعيد بذلك التصويب على وجوب أن يلتزم عون الدستور “والإقلاع نهائياً عن بدعة التأليف قبل التكليف”، باعتبار “المدخل الوحيد” لتشكيل الحكومة هو “احترام رئيس الجمهورية للدستور ودعوته فوراً لاستشارات نيابية ملزمة عملاً بالمادة 53”.
بمعنى آخر، قلب الحريري طاولة المعادلات في وجه عون ورئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل وقال لهما: “إنقعوا الحكومة واشربوا ميّتها”، حسبما قرأت مصادر سياسية بين سطور بيانه، موضحةً لـ”نداء الوطن” أنّ الحريري “كان ولا يزال يرفض الغرق في وحول الفشل العوني ليعيد العهد تعويم نفسه على أي حكومة جديدة يرأسها، فهو إذا كان بحكم حجمه النيابي وموقعه السنّي مرشحاً بديهياً لتولي رئاسة الحكومة، لكنه لم يكن طارحاً نفسه مرشحاً بالأساس، ولولا الزجّ السياسي والإعلامي المتعمّد لإسمه في بازار المفاوضات وتعطيل الاستشارات لما كان مضطراً لإصدار بيان يعلن فيه عدم ترشحه صراحةً”. وعليه، ترى المصادر أنّ واقعة إعلان عدم الترشح لم تشكل أي عنصر مفاجئ في بيان الحريري، إنما الأبرز فيه هو ما تمحور حول تحميل العهد و”التيار الوطني الحر” تحديداً مسؤولية مباشرة عن إضاعة “فرصة الاهتمام الدولي بلبنان وتفويت إمكانية الاستفادة من زخم المبادرة الفرنسية لإعادة بناء بيروت وتحقيق الإصلاحات وفك عزلة البلد الاقتصادية والمالية ووقف الانهيار”، وذلك عبر إمعان عون ومن خلفه باسيل في حالة “الإنكار الشديد لواقع لبنان واللبنانيين”، والإمعان في انتهاج سياسة “الابتزاز لتحقيق مكاسب سلطوية أو أحلام شخصية” كما وصفها الحريري في بيانه، مشدداً على أنّ هذا النهج بات يتخطى الأبعاد السياسية ليصبح “ابتزازاً للبلد ولفرصة الاهتمام الدولي المتجدد ولمعيشة اللبنانيين وكراماتهم”.
وفي الغضون، لوحظ خلال الساعات الأخيرة التي سبقت إنهاء الحريري جدلية ترشيحه من عدمها، حراك مكوكي قام به المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم بين المقرات الرئاسية والسياسية والروحية على نية فكفكة العقد الحكومية، وكشفت مصادر مطلعة على هذا الحراك لـ”نداء الوطن” أنّ مهمة ابراهيم تمحورت حول شقين، الأول يتصل بمحاولة “تطويق الغضب السني” والثاني يتعلق بالسعي إلى إيجاد أرضية توافقية مشتركة تتيح التأسيس لتكليف الحريري تشكيل الحكومة الجديدة.
وأوضحت المصادر أنه “بعد تسرّب معلومات مؤكدة تفيد بأنّ رؤساء الحكومات السابقين سيعمدون تحت عباءة دار الفتوى إلى تصعيد اللهجة في مواجهة استيلاء عون على صلاحيات الرئاسة الثالثة، كُلف اللواء ابراهيم بالقيام بمسعى “تبريدي” للغليان السنّي عبر طلب التريث في التصعيد، بموازاة تقديم وعود بالعمل على فصل مسار التكليف عن مسار التأليف احتراماً لصلاحيات الرئيس المكلف، بمعنى أن يصار إلى تكليف الشخصية التي تختارها الطائفة السنية ترؤس الحكومة لكي تتولى هي بنفسها فكفكة عقد التأليف”، لافتةً إلى أنّ ابراهيم كان قد علم بنية الحريري سحب ترشيحه من التداول فسعى إلى إقناعه بالتريث في اتخاذ هذا القرار لكن رئيس “المستقبل” بدا حاسماً وحازماً في تأكيد عدم الترشح وهو ما جسده في بيان مكتوب منعاً لأي تأويل أو تحليل.