«… أعلن أنني غير مرشح لرئاسة الحكومة الجديدة وأتمنى من الجميع سحب اسمي من التداول في هذا الصدد». هكذا حَسَمَها الرئيس السابق سعد الحريري أمس، ورمى الكرة في ملف تشكيل الحكومة الجديدة في ملعب الآخَرين.
ورغم أن البعض تَلَقّف بيان عزوف الحريري على أنه جاء وليدَ مسارِ «الإحراج للإخراج»، وأنه حقّق لفريق رئيس الجمهورية ميشال عون خصوصاً رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل «هدفه الذهبي» بإقصاء زعيم «تيار المستقبل» عن الرئاسة الثالثة، إلا أن أوساطاً واسعة الاطلاع اعتبرت أن من التبسيط قراءة خطوة الحريري بهذا الحساب، مشيرةً إلى أن توقيت هذا «الانسحاب» من «مرمى النار» سيجعل الائتلافَ الحاكِمَ (تحالف عون حزب الله – أمل) أمام خياريْن لا ثالث لهما:
• فإما الذهابُ إلى حكومةٍ بمعيارِ الأكثرية النيابية لهذا الائتلاف، وتالياً تكرار تجربة تشكيلة اللون الواحد برئاسة حسان دياب (استقال قبل 16 يوماً). ومن شأن مثل هذه الحكومة، وضع البلاد في ضوء الخطوط الحمر التي رَسَمَها المجتمع الدولي، وأيضاً فتْح البلاد على شتى العوامل التي قد تجد في «تسخين» الوضع ورقةَ «ربْط نزاع» مع الخارج، خصوصاً أن الشارع سَبَقَ أن عبّر عن رفض أي حكومة من غير المستقلّين والمُحايدين.
• وإما الذهاب إلى حكومةٍ بمعايير المجتمع الدولي، أي حكومة مستقلّين، تراعي مقتضيات المرحلة البالغة الحَراجة التي تمرّ بها البلاد بعدما تَشابَكَتْ «فواجعُ القرن» في سنة «مئوية لبنان الكبير»، وتُلاقي «دفترَ شروط» الخارج الذي بات حاضراً «على الأرض» في لبنان بعد انفجار المرفأ، وتحديداً لجهة إنجاز الإصلاحات البنيوية وإبعاد «حزب الله» عن الإمساك بدفّة القرار الحكومي كممرّ إلزامي للحصول على «طوق النجاة» المالي.
ورأت الأوساطُ أن مآل كلا الخياريْن يرتبط بمدى قدرة المكوّن السني أولاً ومن خلْفه حلفاء الحريري على التموْضع خلف مرشح واحدٍ يصبح القفز فوقَه نحو تكرار تجربة دياب أمراً صعباً.
واعتبرت أن تحييد الحريري نفسه، ورغم أن البعض قد يفسّره على أنه من نِتاج تَبَلُّغه من حليفه وليد جنبلاط (بعد حزب «القوات اللبنانية») عدم تحبيذ توليه رئاسة الحكومة «خوفاً عليك من ان تحترق في ظل مضيّ فريق العهد في سياسة التعطيل»، إلا أنه يجعل عون وحلفاءه أمام «لحظة الخيار» التي باتت محكومة بموازين جديدة توفّرها الإحاطة الدولية بالواقع اللبناني، كما أنه سيتيح تركيزَ الضغط الداخلي على الدفْع نحو إجراء الاستشارات النيابية المُلْزمة لتكليف رئيس للحكومة ووقْف استرهانها للتوافق المسبق على التأليف.
ووفق الأوساط نفسها، خلطتْ خطوة الحريري الأوراقَ ووضعتْ الثنائي الشيعي، الذي كان يريد عودته على رأس حكومةٍ لم يكن جرى إيجاد تفاهُم على شكلها، أمام تحدي كيفية إدارة الملف الحكومي بما يوفّق بين تَفادي زيادة الشروخ الداخلية واستدراج المزيد من «جبهات الرفْض» بوجهه خصوصاً في ضوء اندفاعة الكنيسة المارونية التصاعُدية تحت عنوان حياد لبنان، وبين حسابات «التيار الحر» التي تطلّ على استحقاقاتٍ مقبلة.
وفي حين لم تُسْقط الأوساط من الحسبان إمكان أن تكون تَعزّزتْ حظوظ تمديد فترة تصريف الأعمال لحكومة دياب سواء لإبقاء الواقع معلّقاً بانتظار انقشاع الرؤية في استحقاقات كبرى بينها الانتخابات الرئاسية الأميركية أو تلافياً لأي دعسات ناقصة فوق حقل الألغام الإقليمي – الدولي، لم يكن ممكناً أمس رصْد تداعيات خطوة الحريري على الزيارة المرتقبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمشاركة باحتفالية مئوية لبنان الكبير، وسط إشاراتٍ كانت صدرت إلى استياء فرنسي من أداء الأطراف اللبنانية وعرقلة المسار الحكومي.
واستوقف الأوساط نفسها في بيان عزوف الحريري تركيزه على المبادرة الفرنسية التي كان حملها ماكرون إبان زيارته لبيروت غداة انفجار المرفأ، معتبراً «أن الاهتمام الدولي المتجدّد ببلدنا، وعلى رأسه مبادرة ماكرون يمثّل فرصة قد تكون أخيرة ولا يمكن تفويتها لإعادة بناء عاصمتنا الحبيبة، وتحقيق سلسلة إصلاحات، وفك العزلة الاقتصادية والمالية».
وأضاف في غمز من قناة باسيل مع تحييد لبري و«حزب الله»: «لكن بعض القوى السياسية ما زال في حال إنكار شديد لواقع لبنان، ويرى في ذلك مجرد فرصة جديدة للابتزاز على قاعدة أن هدفه الوحيد التمسك بمكاسب سلطوية واهية أو تحقيق أحلام شخصية مفترضة في سلطة لاحقة. وهو مع الأسف ابتزاز يتخطى شركاءه السياسيين ليصبح ابتزازاً للبلد».
وإذ أكد «بناء عليه (…) أعلن أنني غير مرشح لرئاسة الحكومة الجديدة»، طالب عون بـ «احترام الدستور والدعوة فوراً لاستشارات نيابية ملزمة والإقلاع نهائياً عن بدعة التأليف قبل التكليف»، كاشفاً «أنني مع كتلة المستقبل، وفي الاستشارات النيابية سنسمي مَن نرى فيه القدرة على تولي تشكيل حكومة تضمن نجاح الفرصة الأخيرة أمام بلدنا».
وجاءت هذه التطورات فيما كانت قطر تسجّل أول حضور خليجي رسمي في بيروت بعد نكبة 4 أغسطس، عبر زيارة نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الشيخ محمد بن عبدالرحمن الذي نقل إلى عون تعازي أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بضحايا الانفجار، معرباً عن «وقوف الدوحة الى جانب لبنان»، ومؤكداً أن بلاده «ستساهم في رفع الأضرار وتلبية الحاجات الملحة للعائلات المتضررة في ضوء الخطة الموضوعة لدعم لبنان».
وأضاف الوزير القطري الذي التقى أيضاً كبار المسؤولين وشخصيات سياسية بينها الحريري: «كانت هناك خطة من دولة قطر للنظر بإمكان مساعدة الشعب اللبناني لتجاوز الأزمة الاقتصادية. ولدينا تصورات سيتم بحثها مع الحكومة اللبنانية. ولا شك أن هناك حاجة للاستقرار السياسي حتى تدعم مسيرة الإصلاح. ونأمل أن تُحل الأزمة السياسية بين الأطراف اللبنانيين، وسندعم أي جهود تجاه الوحدة الوطنية. ونتمنى من أشقائنا في لبنان أن يضعوا مصلحة الشعب اللبناني في صميم التفاهمات وأن تكون بعيدة عن الضغوط الخارجية».