كتب جورج بشير في صحيفة “الجمهورية”:
إبّان الإجتياح الإسرائيلي للبنان في الثمانينيات، جاء من أخبر البطريرك الماروني الكاردينال نصرالله صفير في بكركي، أنّ ضبّاطاً إسرائيليين كباراً يواكبون أمين الخارجية الإسرائيلية ديفيد كمحي، ينتظرون على باب المدخل الخارجي، يودون زيارته للسلام على غبطته. البطريرك صفير أمر بعدم السماح للوافدين بتجاوز المدخل الخارجي والعودة إلى حيث أتوا.
سلف البطريرك صفير مار أنطونيوس بطرس خريش سبق له وخدم رعاياه الموارنة في حيفا (فلسطين)، جاهر دوماً بحقّ الشعب الفلسطيني بأرضه ووطنه. وحرص رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات عند زيارة بكركي بعد انتخاب خريش بطريركاً للموارنة، على التذكير بهذه الواقعة التاريخية التي هي من تراث المواقف الوطنية الناصعة للبطريركية المارونية في قضية الحق والعدل قضية فلسطين، مذكّراً بموقف البطريرك الماروني أنطوان عريضة في الأربعينيات، عندما طلب من رعاياه ومواطنيه إستضافة اللاجئين الفلسطينيين في بيوتهم وأديرتهم وفي ممتلكات الطائفة في لبنان.
موقف البطريركيّة المارونية، منذ حرب فلسطين واحتلالها من جانب شذاذ الآفاق، ومن قضية شعبها إلى اليوم، ما زال هو، هو، لم ينحاز إلّا للحق والعدل في أن تعود فلسطين إلى أهلها المقتلعين من أرضها وتعود دولة مستقلّة، ويتمتّع الفلسطينيون فيها بحقوقهم الوطنية وتنفيذ حق العودة المعترف به من الأمم المتّحدة.
هذا الموقف عبّر عنه البطاركة الموارنة على مرّ تاريخ البطريركية، ولم يكن موقفاً محايداً من قضية الحقّ والعدل، بل كان منحازاً إلى هذا المبدأ الإنساني النبيل. وقد تميّزت به بكركي على مرّ تاريخها، خصوصاً عندما انحازت القيادة الفلسطينية بتحريض دولي ومحلّي عن خياراتها الأساسية المعلنة، فحملت السلاح لتحويل لبنان وطناً بديلاً من فلسطين، فوقفت بكركي بشراسة مع فاعليات لبنانية ضدّ هذا التوجّه. وكان «اتّفاق القاهرة» الذي عارضته بكركي بقوّة، ولم يتميّز موقف سيّد بكركي بالحياد، عندما طالب بضرورة إنهاء الإحتلال الإسرائيلي، وبعده عندما طالب بوضع حدّ للوجود العسكري السوري في لبنان، تماماً كما كان عليه أسلافه الذين حاصرهم العثمانيون وقبلهم المماليك مع رعاياهم نحو ثلاثمئة عام في وادي قنّوبين شمال لبنان، فقاوموا الإحتلال والحصار، بإيمانهم الصلب، وتحرّروا رغم إحراق الحاكم العثماني للبطريرك الماروني (البطريرك حجولا) حيّاً في ساحة التلّ في طرابلس، فكانت هذه أوّل مدرسة للمقاومة الوطنية في هذا الشرق.
موقف البطريرك الماروني لم يكن محايداً عندما عارض بقوّة ضمّ لبنان إلى وحدة سوريا ومصر. هذه الوحدة التي شهد اللبنانيون والعرب فصول انهيارها في اجتماعات وزراء خارجية الدول العربية في فندق بارك أوتيل – شتورا – في بداية عهد الرئيس المميز فؤاد شهاب، وكانت أولى مظاهره، توجّه لبنان نحو الحياد في نصب خيمة لقاء القمة بين الرئيسين اللبناني والمصري فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر، مناصفة على الحدود اللبنانية ـ السورية.
مواقف البطاركة الموارنة من موضوع حياد لبنان المطروح على بساط البحث والتحليل على الاصعدة اللبنانية والاقليمية والدولية، اصيل وناصع ومتحرّر من العِقَد والمصالح، وقد عبّر عنه المشروع المطروح من البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، الذي لا يحتاج الى شهادات بوطنيته وايمانه بشعبه المنتشر في كل المعمورة عبر ابنائه الموارنة، وسائر ابناء لبنان الباحثين عن ظروف الحياة الافضل وهرباً من الظلم والقهر. كما انّ حياد لبنان كان في صلب البيانات الوزارية اللبنانية للحكومات المتعاقبة.
مشروع البطريرك الراعي والمواقف التاريخية لأسلافه البطاركة المتعاقبين على عرش بكركي، عبّر عن الوجدان اللبناني المتمسّك بمبادئ الحرّية والسيادة والاستقلال، لهذا البلد المتميّز بصيغته وتاريخه، في هذا الجزء من العالم.
في ايامنا هذه، عندما يطرح البطريرك الماروني الحالي الكاردينال بشارة الراعي بجرأة وايمان مشروعه لإعلان حياد لبنان، إنما يجسّد بذلك تاريخ المواقف الوطنية الناصعة المتحرّرة للبطريركية المارونية من اي ارتهان أو تبعيّة، ما عدا مصلحة لبنان لكل شعبه من دون استثناء، آخذاً في الاعتبار تاريخ لبنان وصيغة العيش المشترك والتعددية بين المسيحيين والمسلمين المميزة في هذا الشرق العربي، وبعدم الانخراط او الاشتراك في النزاعات الاقليمية والدولية، بأن يلتزم لبنان موقف الحياد الايجابي تجاه هذه النزاعات، لكي لا يذهب طعماً لها ويذوب في آتونها، وذلك عبر حوار وطني مسؤول واعٍ لمخاطر الانحياز لأي فريق، محافظاً على موقفه المبدئي إزاء قضايا الحق والعدل، وفي طليعتها قضية فلسطين وشعبها.
لم ينسَ اللبنانيون، وإن تناسى بعضهم، انّه في ما كان يُسمّى عهد «المارونية السياسية»، كان لبنان يُلقّب بـ «سويسرا الشرق»، من حيث المنعة والحرية والرخاء الاقتصادي. فأين هو لبنان اليوم، وكل المحاولات الرامية الى لصق الاتهامات بطرح البطريرك الكاردينال الراعي، إقرار نظام حياد لبنان، موصومة مع اصحابها سلفاً بالتجنّي والافتراء والتبعية، ومحاولة مشبوهة لنكران تاريخ بكركي ودورها الوطني والاقليمي والدولي الناصع والاصيل؟