كتبت كلير شكر في “نداء الوطن”:
ها قد دخل مصطفى أديب نادي رؤساء الحكومات من باب الرباعي السني والغطاء الفرنسي، ليرأس حكومة يفترض أنّها انتقالية بمهمة محددة وهي تنفيذ الاصلاحات البنيوية الإدارية والمالية، قبل أن يسلّم الأمانة إلى حكومة ذات عنوان سياسي… فقد انتقلت المشاورات إلى “مثلث برمودا” للتأليف، حيث يمكن لأي مجهود دولي أن يغرق في متاهة المناكفات وصراعات الحصص بين القوى اللبنانية!
لا حاجة للتدقيق كثيراً في وقائع الرواية التي نقلت الرجل على وجه السرعة من السلك الديبلوماسي إلى واجهة الانهيار المالي، سواء حصل ذلك من قبيل الصدفة ليكون فلتة شوط الهاربين من تلقف كرة النار، أم أنّ للإدارة الفرنسية دوراً مهماً في تقديمه على طبق تفاهم، يراد له أن يتمّ كي تطمئن باريس إلى أنّ الحكومة العتيدة تحظى برعاية داخلية كافية لتمنع عنها ظلم ذوي القربى. ما يهمّ الآن هو تحديد مدى متانة المظلة الدولية التي يمكن لباريس تأمينها لحكومة مصطفى أديب ليقوم بما عجزت عن إنجازه حكومة حسان دياب المستقيلة، ما يقود إلى البحث عن حقيقة الظروف المحيطة بعملية التكليف والتأليف التي أتت بالأكاديمي رئيساً للحكومة، وليس بسعد الحريري على سبيل المثال أو أي من دائرته السياسية اللصيقة، ليبنى على الشيء مقتضاه. ما يدفع بالنتيجة إلى السؤال: ما الذي تغيّر بين 19 كانون الأول 2019 تاريخ تسمية حسان دياب رئيساً للحكومة، و31 آب تاريخ تسمية مصطفى أديب لينجح الأخير حيث فشل الأول؟
عاملان أساسيان يمنحان سفير لبنان السابق في ألمانيا، قوة دفع يرفعان من حظوظ نجاحه، أولهما الغطاء السني الذي يؤمنه رباعي نادي رؤساء الحكومات السابقين، على رغم تراجع حضورهم الشعبي أسوة ببقية الأحزاب والقوى السياسية، ولو أنّ بعض النواب السنّة رفضوا الانضمام إلى هذه التسوية وفضّلوا المعارضة. وهذا ما كان يفتقده رئيس الحكومة المستقيلة الذي واجه معارضة شرسة من الشارع السني، فضلاً عن عدم قبول كل مكونات حكومته لهذه التركيبة، وفي طليعتهم رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي لم يهضم دياب أو حكومته.
ثانيهما، اصرار الادارة الفرنسية على إحداث خرق في جدار الأزمة اللبنانية رغم الخشية التي تعتري عدداً من مستشاري الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون من أن تصل جهوده إلى حائط مسدود، نظراً للممانعة التي تبديها القوى اللبنانية بسبب رفضها تقديم أي تنازلات على طريق اقرار الاصلاحات. إلا أنّ ماكرون الذي يتّسم بالعناد، يتسلّح وفق المتابعين للحراك الفرنسي، بعدم رفض الإدارة الأميركية أن تتولى باريس هذه المبادرة شرط أن تبقى تحت السقف الموضوع أميركياً، لا سيما وأنّ العاصمتين تتفقان على البرنامج الاصلاحي وتسعيان لتطبيقه. من هنا، تتسم الفرصة الممنوحة للحكومة العتيدة بالكثير من الجدية والقدر الكافي من الحصانة الدولية التي قد تسمح لها بتحقيق المهمة المستحيلة.
أبرز ما تغيّر منذ تاريخ تسمية دياب، هو انعدام ترف الوقت. مصرف لبنان يكاد يشهر “افلاسه” بعد تأكيد حاكمه عدم المس بالاحتياطي الإلزامي. ما يعني أنّ المهلة المتاحة للمحاولة الأخيرة، لا تتعدى الأسابيع القليلة. وبالتالي لا تملك القوى السياسية ترف المناورة والتلاعب والتذاكي. إما تنصاع للأجندة الفرنسية، وإما ستواجه الانفجار الكبير الذي لن يعفي أحداً. أكثر من ذلك، هل من فريق يجرؤ بعد الآن على التعطيل؟
من المتغيرات أيضاً، شخصية “دولته”. اشتكى كثر من عناد حسان دياب ورفضه مسايرة الجالسين الى طاولته، فيما يبدو أنّ ما تسرب عمن يعرفون رئيس الحكومة الجديد أن الأخير يتسم بالكثير من الديبلوماسية، وقلة الرغبة بالمشاكسة. ما يطرح السؤال حول قدرته على فرض جدول أعماله على “صنّاعه”.
هكذا، يقول هؤلاء إنّ مسار التأليف سيكون بمثابة مؤشر واضح على المنحى الذي ستسلكه الحكومة. المهلة محدودة جداً. وتذهب المعلومات المتداولة إلى حدّ الجزم أنّ رئيس الحكومة المكلف لن يرضى بإغراقه في مستنقع المحاصصة وسيسارع اذا ما حصلت، إلى رمي ورقة اعتذاره بوجه القوى السياسية، كي لا يُجرّ إلى حيث جُرّ سلفه حسان دياب. يؤكد المطلعون أنّ الأخير لم يتردد حين عرض عليه التكليف في وضع شرط أساسي وهو عدم تدخل القوى السياسية في طبخة التأليف، وإذ بالمناكفات والشروط والشروط المضادة تكبّل مهمته.
ولهذا، يصير وجه الشبه بين دياب وأديب هو أنّ كليهما قُدّما بمثابة “كبش محرقة” حيث يخشى الآخرون. الأول فشل في تنفيذ المهمة كون العراقيل كانت من ذوي القربى قبل الخصوم، فيما الأخير يتحضر لخوض الأمتار الأخيرة من “سباق الموت”. هكذا، فإنّ السيناريو الانتحاري لكامل الطبقة السياسية، قائم اذا ما وضعت العصي في دواليب آخر حكومات “الجمهورية الثانية”!