كتب ألان سركيس في “نداء الوطن”:
من يتابع حركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وتصريحاته يكتشف أنه يتصرّف وكأنه المسؤول في الدولة اللبنانية ويحرص كل الحرص على إنقاذ ما تبقّى من الكيان.
لا يمكن للشعب اللبناني أن يغفر للطبقة السياسية لما أوصلته إليه من وضع مزرٍ، فهو يغرق أكثر وأكثر في آتون المجهول، ويعيش الذل والجوع والخوف على المصير، وكأنّ البلاد في مرحلة الحصار الذي فُرض عليها إبان الحرب العالمية الأولى، وتنظر إلى فرنسا كمخلّص من نير وبطش جمال باشا السفاح. وبعدما أصبح عمر بلد الأرز مئة عام، ها هو يستنجد بالفرنسي لإنقاذه، وكأن لا إستقلال ولا إعمار ولا تعلّم من دروس الماضي، فبدل أن يأتي ماكرون ليشارك في إفتتاح أعلى برج في الشرق أو تفقد المرفأ كأكبر مرفأ في الشرق، أو يزور المناطق الجبلية للإطلاع على القفزات النوعية في مجال السياحة، ها هو يزور لبنان لـ”يبهدل” الطبقة السياسية التي أوصلت البلد إلى الحضيض وقضت على أمل الشعب بحياة كريمة.
هذا الواقع المحزن إلتفت إليه الفرنسي الذي يُبدي كل الحرص على لبنان أكثر من سياسييه، لكن في المقابل هناك رجل “ظل” لعب دوراً كبيراً في توجيه ماكرون، وهندسَ تحركاته ورسمَ خريطة مواقفه، هو السفير السابق في لبنان ومستشاره في الإليزيه إيمانويل بون.
قبل انفجار المرفأ، قالها بون بصريح العبارة “لا يمكننا أن نترك لبنان يغرق، فهذا البلد يشكّل النموذج الأهم لنا في الشرق ويجب أن نحافظ على ثقافته وتراثه”، سمع ماكرون كلام بون ونصائحه جيداً وهبّ لنجدة أكثر من 50 مدرسة تدرّس اللغة الفرنسية، قسم منها تابع لباريس مباشرة، والقسم الأكبر تابع للإكليروس الماروني. وبناء على نصيحة بون، أوفد ماكرون وزير الخارجية جون إيف لودريان إلى بيروت، حيث تمّ الإقرار رسمياً بمساعدة المدارس الفرنكوفونية، وشدّد لودريان على ضرورة القيام باصلاحات وإلا لا مساعدات، و”بهدل” الحكّام محذراً من أنهم يأخذون لبنان إلى الهاوية.
وقع الإنفجار، فما كان من بون إلا أن نصح ماكرون بزيارته شخصياً وتفقّده، وهكذا كان، إذ إن الزيارة الأولى كان لها صداها خصوصاً عندما قوبل بعطف من أهالي الجميزة والأحياء المنكوبة، وظهر بمظهر “بي الكل” الحقيقي، وملأ فراغاً تركته السلطة السياسية نتيجة عدم قدرتها على مواجهة الشعب وقول الحقيقة. بات الشعب ينظر إلى ماكرون، نتيجة نصائح بون، كأنه المخلّص والمنقذ من هذه الطبقة القابضة على الحكم، وسط المناشدات بألا يمنح شرعية أو يعوّم من جوّع وقتل وشرّد الشعب، في حين أن الدور الفرنسي الجديد يحظى بشبه إجماع داخلي نتيجة قرب باريس من كل الأطياف اللبنانية.
بعكس لبنان، يحظى المستشار في فرنسا والبلدان الغربية بدور كبير ويأتي نتيجة خبرته لا “تنفيعة”، وهذا الدور يؤديه إيمانويل بون بالنسبة إلى الملف اللبناني بطريقة علمية ومدروسة، وهو من نصح ماكرون بزيارة السيدة فيروز نظراً لما تشكّله من رمزية للشعب اللبناني والعربي.
بات إيمانويل بون من يهندس كل تحركات فرنسا في لبنان، لكنه يعلم كما الإليزيه والخارجية الفرنسية أن وضع لبنان دقيق جداً وهو محكوم بالتوازنات الداخلية والخارجية، لذلك فإن التنسيق بين الإليزيه والبيت الأبيض على أكمل وجه، إذ إن التحرّك الفرنسي لا يتم من دون غطاء أميركي، وإلا كان فشل من لحظته الأولى.
ويعلم بون جيداً تفاصيل التركيبة اللبنانية، وهو كان بمثابة “كرسي إعتراف” لجميع السياسيين عندما كان سفيراً لبلاده في لبنان، ويعرف كيف يطعنون ببعضهم البعض وكيف يحرّضون ويستجلبون التدخلات الخارجية وتغيب الوطنية عند أغلبيتهم، لذلك فإن الموقف الفرنسي يترجمه ماكرون بعدم ثقته بهذه الطبقة وقد رددها سابقاً، ما يعيد بالذاكرة تصرفات بعض السياسيين اللبنانيين خلال الحرب العالمية الثانية الذين كانوا يأتون إلى المفوض السامي الفرنسي ويعلنون تأييدهم لحكومة “فيشي” فيما كانوا يراسلون حكومة ديغول ويؤكدون ولاءهم لها ضد “فيشي”.
من المبكر الحديث عن المدى الذي سيأخذه الدور الفرنسي في لبنان بانتظار جلاء صورة الإنتخابات الرئاسية الأميركية، لكن الأكيد أن فرنسا ثبتت أقدامها معنوياً وشعبياً في لبنان بانتظار حصد المزيد من الإنجازات السياسية، بينما يبقى بون “رجل الظل” الذي يقوم بكل الأدوار وقد يتحوّل إلى ما يشبه “المفوض السامي” في حال قررت أميركا إطلاق يدّ فرنسا في لبنان.