في زيارة حافلة بالمواقف والدلالات السياسية، تصرف الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون كما لو أنه مرشد الجمهورية اللبنانية في مئويتها. تحدث كمن يعطي الإنذار الأخير. إما أن تنفذ الحكومة المقبلة خريطة طريق وضعتها فرنسا من ألفها إلى يائها وإما لا مساعدات والإنهيار آتٍ مع العقوبات. وفي الطريق إلى ذلك، رفض ماكرون البحث في أي «مسألة خلافية»، كسلاح حزب الله أو تغيير النظام.
دخلَ لبنان المترنّح في مئويته عهدَ انتداب دولي جديد، تُرجِم بحركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارته الثانية لبيروت بعدَ انفجار المرفأ، مُحدّداً «ألفباء» الإنقاذ. مُباركاً تكليف رئيس الحكومة مصطفى أديب، رسمَ «مُرشد الجمهورية» الفرنسي خريطة الطريق للمسؤولين: 15 يوماً لتأليف الحكومة، و8 أسابيع لتنفيذ الوعود بعد تأليف الحكومة. إذا وفيتم بالتزاماتكم نفي بالتزاماتنا، وإلا فلن نقدّم شيكاً على بياض ولن نستطيع دعم لبنان.
ومع هذه الزيارة الحافلة بالمواقف، أهمها تأكيد ماكرون الحوار مع كل الأطراف اللبنانيين، تستعدّ البلاد لأيام مفصلية يُفترض أن يتبلوَر معها طرف خيط في ما يتعلّق بموقف واشنطن من المبادرة الفرنسية. فعشية وصول المبعوث الأميركي ديفيد شينكر الى لبنان، تتعاظم المخاوف من أن يكون حاملاً فتيل تفجير عبرَ تكرار شروط بلاده استبعاد حزب الله عن أي حكومة جديدة، على عكس الاقتناع الفرنسي بعدم القدرة على تجاوز الحزب الذي قال ماكرون أمس خلال تفقده المرفأ إنه «جزء من الشعب اللبناني»، علماً بأن مصادر مقرّبة من الفرنسيين تؤكّد عكس ذلك، مشيرة إلى أن «هذه المبادرة هدفها الاستقرار، ولا يعارضها الأميركيون». وتؤكّد هذه المصادر أن «فرنسا ترفض انهيار لبنان، وتريد أن تتواصل مع جميع الأطراف فيه»، مشددة على أن «مبادرتها مدعومة أوروبياً». في المقابل، يعيد آخرون التذكير بحقيقة أن لبنان هو آخر مركز نفوذ لفرنسا في المنطقة، وتعتبره موقعاً استراتيجياً في ظل ما تواجهه مع تركيا في شرق المتوسط، إضافة إلى ما تحمله مبادرة ماكرون من مكاسب للجانب الفرنسي في مشاريع الكهرباء والمرفأ والاتصالات والقطاع المصرفي، فضلاً عن مكاسب سياسية عديدة، منها أن تكون باريس المفاوض الأول بين الغرب وحزب الله.
في قصر الصنوبر أمس، ختم ماكرون يومه اللبناني الحافل. التقى بممثلي ثماني قوى سياسية (تيار المستقبل وحركة أمل وحزب الله والتيار الوطني الحر والحزب «الاشتراكي» وتيار المردة والقوات والكتائب)، ليناقش الورقة التي وزعتها عليهم السفارة الفرنسية، وتضمنت اقتراح مسودة بيان وزاري، مع جدول زمني لبنوده (راجع «الورقة الفرنسية»). وأبلغ ماكرون الحاضرين أنه يضع من رصيده السياسي الشخصي في مبادرته التي يرى فيها إنقاذاً للبنان. أغدق على الحاضرين من عواطفه، قائلاً إنه يحب لبنان، ويحب الحاضرين، لكنه حذّر من أن عدم القيام بمبادرات إنقاذية سريعة سيؤدي إلى اتخاذ إجراءات لم يحددها. في مؤتمره الصحافي بعد اللقاء، لوّح بالعقوبات على معرقلي الإصلاح.
في اللقاء كان واضحاً إصرار الرئيس الفرنسي على إبلاغ الحاضرين أنه لا يرغب إقحامه في أمور خلافية، كالاستراتيجية الدفاعية وتغيير النظام والحياد، يصعب أن يتفق اللبنانيون حولها ويختلفون عليها منذ زمن طويل، مشدداً على أن الأولوية للإصلاحات وليس لأمور «تختلفون عليها منذ سنوات. إذا التزمتم بالاصلاحات، ألتزم أمامكم بالحصول على مساعدة المجتمع الدولي لبلدكم».
النائب السابق سامي الجميّل سأل ماكرون: أي إصلاحات قابلة للتنفيذ بوجود قوة مسلحة غير الجيش اللبناني في البلاد؟ فشدّد ماكرون على أن «الأولوية الآن ليست للبحث في السلاح ولا في الانتخابات (المبكرة) ولا في فكرة تغيير النظام. نحن لدينا رأينا من موضوع سلاح حزب الله. لكن الأولوية الآن هي للإصلاحات التي يمكن تنفيذها ضمن المهلة التي لا تحتمل الخوض في هذه الأمور. أريد أن أقوم بما هو مفيد، ولا تقحموني في أمور أخرى، وإلا فإنكم تكونون كمن يأخذ بلاده الى الخراب». وسأل الرئيس الفرنسي الجميّل الذي أصرّ على إجراء انتخابات مبكرة: «لماذا تصرّ على ذلك؟ كم عدد المقاعد الذي سيتغيّر؟ وهل أنا من انتخب حزب الله؟». ثم توجّه ماكرون إلى النائب محمد رعد ممازحاً: «أنا أدافع عنكم فيما أنتم صامتون». وردّ ماكرون على سمير جعجع الذي كرّر أكثر من مرة الحديث عن ضرورة تأليف حكومة مستقلين: «ليس هذا المفيد. المفيد هو الإصلاحات التي إذا طبقتموها أستطيع أن أضمن مساعدة المجتمع الدولي لكم. ولكن لا تقحموني في مواضيعكم الخلافية». ولفت الى أنه «لا يمكن الفصل بين الحكومة والبرلمان والإتيان بحكومة لا تحظى بثقة مختلف القوى السياسية».
النائب محمد رعد أخذ النقاش نحو الورقة الفرنسية، قائلاً: بصرف النظر عن اللغة التي تمت صياغة الورقة فيها، والتي تشي بشيء من الفرض والإملاء، لكن 90 في المئة من الأفكار الواردة فيها نحن متفقون عليها. وما يعنينا أن ما نوافق عليه ويمر عبر القنوات الدستورية، نحن نلتزم به. لكن ما نقول هنا إننا غير موافقين عليه، فلن نوافق عليه خارج هذه القاعة.
عندها سأله ماكرون عن الـ10 في المئة التي لا يوافق عليها الحزب، فردّ رعد: مثلاً، الانتخابات النيابية المبكرة. نحن نرفضها. أضف إلى ذلك أن الاتفاق على القانون الانتخابي الساري حالياً، استهلك سنة ونصف سنة من الوقت. وعلّق سليمان فرنجية على البند نفسه، معلناً معارضته. كذلك لفت رعد إلى ضرورة توضيح مسألة التحقيق المحايد والمستقل في انفجار المرفأ، فردّ ماكرون بأن المشكلة هي في ضعف الثقة بالدولة اللبنانية. لكن المطلوب ضمانات بأن يكون التحقيق محايداً، وان تتم الاستعانة بخبرات دولية.
وتحدّث رعد عن مسألة حكومة الاختصاصيين، لافتاً إلى ان الاختصاصيين ربما يكونون غير مطلعين على الواقع السياسي، ما يعني عدم نجاحهم في عملهم.
جبران باسيل، الذي قدّم لماكرون ورقة وصفها بـ«الخلاصية»، أكد «أننا ناضلنا كثيراً للوصول الى قانون انتخابي من ضمن النظام الطائفي يعكس التمثيل الشعبي الصحيح، ولن نقبل بتغييره إلا من ضمن عملية متكاملة تحت عنوان بناء الدولة المدنية وإنشاء مجلس للشيوخ ولامركزية إدارية موسّعة، ومن ثم إلغاء الطائفية السياسية»، فكرّر ماكرون استبعاد فكرة الانتخابات، ورفضه الدخول في مسائل من نوع تغيير النظام، رغم «أنني بالطبع سأكون سعيداً إذا اتفقتم على ذلك، لكنني لست هنا لأدخل في هذه الأمور». باسيل أكد أيضاً «أننا مع حكومة تضم وزراء تكون كفاءتهم وخبرتهم أكبر من ولائهم السياسي، ولكن لا يمكن الفصل بين مجلس الوزراء ومجلس النواب، ونريد حكومة تحظى بدعم القوى السياسية التي تؤلف مجلس النواب».
وقدّم وليد جنبلاط لماكرون ورقة تتضمّن اقتراحات يصفها بـ«الإصلاحية»، وهو ما قام به أيضاً النائب ابراهيم عازار نيابة عن كتلة الرئيس نبيه بري. أما الرئيس سعد الحريري، فتحدّث عن حالة الانهيار التي دفعته إلى تسمية السفير مصطفى أديب لرئاسة الحكومة، «والإخوان وافقوا. وأنا أتحمّل المسؤولية رغم رفض الكثر، في الداخل والخارج لخياري. لكن البلد ينهار، وكان عليّ أن أتخذ هذه الخطوة بهدف الإنقاذ. لكن إذا لم تحقق هذه التسمية الإصلاحات، فسأسحب دعمي».
ماكرون عن حزب الله: لا تطلبوا من فرنسا أن تشن حرباً على قوة سياسية لبنانية
يوم ماكرون الحافل كان في جانب منه احتفائياً بمئوية «إعلان دولة لبنان الكبير». من بلدة جاج الجبيلية، حيث غرس شجرة أرز، وصولاً إلى قصر بعبدا حيث الغداء التكريمي، تُوّج ماكرون الاحتفالية باستعراض لطائرات عسكرية فرنسية حلقت لتطلق ألوان العلم اللبناني فوق القصر الجمهوري. قبلَ ذلك، أطلق الرئيس الفرنسي موقفاً عبر موقع «بوليتيكو» قال فيه إنه «إذا لم يحدُث تغيير فقد يترتب على ذلك فرض إجراءات عقابية»، مؤكدا أن «الإجراءات العقابية المحتملة يمكن أن تراوح بين تعليق مساعدات إنقاذ مالي وعقوبات على الطبقة الحاكمة». واعتبر أنه «يقوم برهان محفوف بالمخاطر من خلال العمل على تجنّب الانهيار السياسي في لبنان. وأضع الشيء الوحيد الذي أملكه على الطاولة وهو رأسمالي السياسي»، مشيراً الى «أنها الفرصة الأخيرة لهذا النظام». وفي موقف متقدم من حزب الله قال «لا تطلبوا منفرنسا أن تشن حرباً على قوة سياسية لبنانية، فذلك سيكون عبثياً ومجنوناً». هذه اللغة استكملها ماكرون في مقابلة مع موقع «brut» الفرنسي، أثناء جولة له في المرفأ، فقال إن «حزب الله يمثّل جزءاً من الشعب اللبناني وهناك شراكة اليوم بينه وبين أحزاب عديدة أُخرى، وإذا لم نُرد أن ينزلق لبنان إلى نموذج يسيطر فيه الإرهاب على حساب أمور أُخرى، يجب توعية حزب الله وغيره من الأحزاب على مسؤوليّاتها»، مُشيراً إلى أن «أموال سيدر لن تحرر ما لم يتمّ تنفيذ الإصلاحات». ورداً على دعوات إلى إقالة رئيس الجمهورية قال إن «الرئيس ميشال عون مُنتخب من البرلمان، والبرلمان مُنتخب من الشعب. لذا لا أستطيع أن أدعو إلى رحيل القوى السياسية المُنتخبة بسبب تظاهرات».
الرئيس الفرنسي: الإنتخابات النيابية المبكرة ليست جزءًا من أجندة الإصلاحات
وزار الرئيس الفرنسي مستشفى رفيق الحريري الحكومي، والتقى بممثلين من المجتمع المدني، قبل أن يختم زيارته بلقاء قصر الصنوبر، الذي سبقته خلوات ثنائية مع عدد من الحاضرين (باسيل والجميل وجعجع وجنبلاط). وختم ماكرون اللقاءات بمؤتمر صحافي أشار فيه إلى «حصول اجتماعات وتبادل للقدرات بين أجهزة التحقيق المختلفة للتحقيق في انفجار بيروت، ووفرنا مساعدة طبية، كما وفرنا كمية كبيرة من المساعدات الطبية والغذائية ومساعدات للبناء أيضاً، لافتاً إلى أن «700 عنصر من الجيش الفرنسي انتشروا وعملوا بالتعاون مع منظمات غير حكومية على الأرض في بيروت كما عمل قسم منهم على مؤازرة الجهات المعنية في التحقيق في انفجار المرفأ». وأعلن ماكرون «تقديم 7 ملايين يورو لمستشفى بيروت الحكومي الذي يركز عمله على مساعدة مرضى كورونا، وسنوفر المساعدات للمستشفيات الأخرى أيضاً، ومسألة التربية من أولوياتنا ومن الضرورة أن يعود التلامذة إلى المدارس والجامعات، وهذه مشكلة تواجهها عدة دول بسبب كورونا. وفي لبنان ازدادت هذه الصعوبة بسبب الانفجار»، معلناً «تعزيز قدراتنا والمشاركة في إعادة إعمار ما تهدم». أما في السياسة فقال ماكرون إن «الرؤساء التزموا بتأليف حكومة في الأيام المقبلة، وطلبت أن لا يستلزم ذلك أكثر من 15 يوماً»، مُضيفاً أنه «تم الالتزام بخريطة طريق تتضمن الإصلاحات في قطاع الكهرباء والقطاع المصرفي والتدقيق الحسابي في البنك المركزي ومكافحة التهريب، وحصلنا على مواقفة الجميع». وأشار إلى أنه سيصار إلى «تنظيم مؤتمر دولي في باريس، ووجّهت دعوة للرؤساء الثلاثة، وسيتم تجنيد مجموعة الدعم الدولي والرؤساء الدوليين والإقليميين لبناء هذا الدعم». وفي ملفات الفساد قال إننا «قد نصل إلى مرحلة سياسة العقوبات». وعن الانتخابات النيابية المبكرة «فهي لم تحصل على اتفاق من القوى السياسية، وهذا ليس جزءاً من أجندة الإصلاحات، لأنّ ذلك قد يستلزم سنوات». أما في ما يتعلق بالرئيس المُكلف، فأشار إلى «أنني اجتمعت به، وهو يتمتع بدعم كبير أوسع من الدعم الذي حصل عليه الرئيس الأسبق، وسيرته المهنية تبدو واعدة». وتحدث عن «توافق القوى السياسية على دعم حكومة اختصاصيين ومهنيين». وعن حزب الله قال إنه «قوة موجودة في مجلس النواب، وربما قوى أخرى لم تستطع إدارة البلد بشكل أفضل، وحزب الله يمتلك قدرة لا تملكها القوى الأخرى»، ورداً على سؤال عن لقائه برعد قال ماكرون إن رئيس كتلة الوفاء للمقاومة «تعهّد بالإصلاحات وعارض الانتخابات المبكرة، وقلت له بوضوح إنّ هناك اختلافاً بشأن الوجود العسكري (لحزب الله)، وهذا لن يكون ضمن الإصلاحات في الأشهر الثلاثة المقبلة، لكنه سيأتي في وقت لاحق».