تدخل «بيروتشيما» اليوم شهرَها الثاني، وسط دموعٍ لم تجفّ بعد على الضحايا الـ 191، وآلامٍ لم تستكن لنحو 6500 جريح، ووجعٍ مفتوح لذوي مفقودين مازال عددهم النهائي حتى «مفقوداً» (لا يقل عن سبعة)، فيما العاصمة اللبنانية على جُرْحها الكبير تحاول تَلَمُّسَ طريقَها إلى فوق الردم ونفْض غبار الانفجار المُزَلْزِل الذي تَسبّب بأضرار في الممتلكات وخسائر اقتصادية راوحت بين 6.7 و8.1 مليار دولار ويتطّلب محو آثارها عمليةَ إعادةِ إعمارٍ تنتظر تمويلاً دولياً يرتبط بدوره بمآل الأزمة اللبنانية بشقّيْها الداخلي – التقني (الإصلاحات) والخارجي – السياسي (حزب الله) والتي بات ملف تأليف الحكومة الجديدة المؤشرَ الرئيسي الى المنحى الذي ستسلكه تحت «عين حمراء» دولية تشكّل فرنسا وجْهها «الناعم» ومن خلْفها «الكاوبوي» الأميركي المتحفّز دائماً على الجبهة المحتدمة مع إيران ومحورها المترامي.
واليوم تقف بيروت عند الساعة السادسة و7 دقائق مساءً دقيقةَ صمتٍ وهي تستعيد اللحظة «الهيروشيمية» للانفجار الذي صار عنوانه العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت والذي تستمرّ التحقيقات، بمشاركةِ فرق دولية (بينها من فرنسا والولايات المتحدة)، لحسْم ملابساتِ تحَوُّل العاصمة في 4 اغسطس «محرقة» كبيرة وهل «نيرون» الإهمال والتقصير (حصلت توقيفات لكبار الموظفين وعدد من الضباط) في تخزين نحو 2750 طناً من نيترات الأمونيوم (لم يتأكد الكمية التي انفجرت منها) هو وحده المسؤول عن «كارثة القرن» أم أن ما خفي أعظم.
وعشية مرور الشهر الأولى على الفاجعةِ التي هزّت العالم والتي ستحييها بيروت على وقع قرْع أجراس الكنائس ورفْع الأذان في المساجد ووقْف السير في محيط المرفأ لمدة دقيقة تزامناً مع لحظة الانفجار وفي حضور أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين الذي وصل أمس إلى لبنان موفداً من البابا فرنسيس، لم يكن من رمزية أكبر على «علبة الأسرار» التي يختزنها هذا التفجير من ضبط الجيش اللبناني حاوية على أطراف المرفأ فيها نحو 4 أطنان من نيترات الأمونيوم نفسها التي أدّت إلى فاجعة 4 اغسطس من دون أن يُعرف سبب وكيفية وجودها في هذا المكان، ولا كان مؤلماً أكثر من العثور تحت أنقاض مبنى في مار مخايل عصراً أقله على جثة شخص، في حين شَغَل نبْض قلْبٍ رصدته أجهزة سكانر في البقعة عيْنها لبنان ووسائل الإعلام على أملٍ ضعيف بمعجزةِ أن يكون لأحد الناجين.
وفي موازاة هذا الهمّ الدائم، بقي العنوان الحكومي الداهم في واجهة المشهد السياسي بعدما قَلَب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قبل مغادرته بيروت (الاربعاء) «الساعة الرملية»، وباسم المجتمع الدولي، للبنان الذي «لا يملك ترف إضاعة الوقت» الذي حدّده بـ 15 يوماً لاستيلاد حكومةِ المَهمّة الإصلاحية بوصْفها «سلّم النجاة» والفرصة الأخيرة للطبقة السياسية لإثبات قدرتها على «الانقلاب على نفسها» والسماح بإطلاق قطار تصحيح المسار المتصل بإدارة شؤون الدولة بمختلف قطاعاتها وإنهاء «جمهورية الفساد» كمدخلٍ لبدء مدّ «بلاد الأرز» بجرعات دعْم مالي تضعها على سكة النهوض من الانهيار المالي مستفيدة من «ممرّ ضيّق» نجح ماكرون في شقّه بـ «لا ممانعةٍ» أميركية على قاعدة «تجزئة» الأزمة في لبنان، ومحاولة انتزاعِ إقلاعِ الإصلاح (وبنوده العالقة منذ نحو عقدين) كمرحلةٍ أولى توقف الانزلاق نحو القعر القاتِل، في انتظار حلول ساعة بحْث الجانب السياسي المتمثّل بوضعية «حزب الله» وسلاحه وانغماسه في أكثر من ساحة بالمنطقة وهو ما يصعب فصْله عن الصراع الكبير مع إيران وربما عن بنية جديدة للنظام السياسي في لبنان.
ورغم الاقتناع الذي مازال سائداً في بيروت بأن الحاضنة الفرنسية للوضع اللبناني، والتي زاوجتْ بين رسْم خريطة طريق محدّدة زمنياً وبجدول أعمال مفنّد بوضوحٍ للحكومة العتيدة وبين التلويح بعصا العقوبات في غضون 3 أشهر، لن تسمح بتفلُّت الأمور وتكبيد ماكرون تالياً أثماناً سياسية كبيرة جراء «المخاطرة الكبرى» برمي ثقله في «الوحول» اللبنانية، إلا أن الساعات الـ 48 التي أعقبت مغادرة الرئيس الفرنسي بيروت التي يعود إليها في ديسمبر، لم تحمل إشاراتٍ كافية إلى أن المعنيين في «بلاد الأرز» أدْركوا تماماً ما هو على المحكّ بحال «عادت حليمة إلى عاداتها القديمة» في المسارات الشائكة لتأليف الحكومات على قاعدة «تقاسُم الجبنة» وحفْظ النفوذ تحت عناوين طائفية وحزبية اختبأت وراءها أهداف سُلطوية وأخرى ذات صلة بالامتداد الإقليمي للأزمة اللبنانية.
وفيما كانت «المفرزة الديبلوماسية» التي شكّلها ماكرون لمواكبة تنفيذ «دفتر المهمات» الذي تلاه على الطبقة السياسية والتي تتألف من السفيرين السابقين في بيروت برنارد ايمييه (رئيس الاستخبارات الخارجية) وايمانويل بون والمعاون للرئيس الفرنسي أوريليان لوشوفالييه، تواكب على مدار الساعة الوضع في لبنان، لاحت أول بوادر عدم تناغُم بين رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه وبين الرئيس المكلف مصطفى أديب حول شكل الحكومة العتيدة وطبيعتها، التي يفضّلها عون من 24 وزيراً على قاعدة أن حجم العمل المطلوب يتطلّب تفرُّغ كل وزير لحقيبة واحدة على أن تتألّف من اختصاصيين مسيَّسين، فيما يحبّذ أديب أن تكون من 14 وزيراً من اختصاصيين يشكّلون فريق عمل متجانساً.
وإذ قام أديب أمس، بأول زيارة للقصر الجمهوري غداة الاستشارات غير المُلزمة التي أجراها مع الكتل البرلمانية قبل أن يباشر وضع الرسم التشبيهي لحكومته، لم يكن ممكناً تحديد أفق الملف الحكومي في ظل ضبابية تكتنف مسألتيْن رئيسيتين تُعتبران المؤشر الأساسي لما إذا كان هذا الملف يسير على السكة الجديدة المرسومة فرنسياً أم لا:
• الأولى هل يشي موقف فريق الرئيس نبيه بري بالتمسّك بحقيبة المال، باعتبارها عنوان الشراكة الميثاقية للمكوّن الشيعي في السلطة التنفيذية بتَشَدُّد مقابِل سيطبع مقاربة فريق عون خصوصاً في ما خص حقيبة الطاقة التي رَبَط رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل عملياً التخلّي عنها بمبدأ المداورة.
• والثانية هل سيسلّم «حزب الله» بالتخلي عن حقيبة الصحة ووضْع تسمية مَن سيمثّلونه حكومياً في «جيْب» سواه في إطار التراجع خطوة عن الحضور المباشر في الحكومة، ولا سيما بعد إعلان وزارة الخارجية الأميركية لقناة «العربية» شرط واشنطن بأن «لا يكون (حزب الله) جزءاً من الحكومة اللبنانية».
واكتسب هذا الموقف أهميته لأنه جاء على وقع تأكيد الولايات المتحدة التنسيق مع الفرنسيين في لبنان والتشديد على أن لكل منهما الأهداف نفسها ولكن مع بعض التباينات وفق ما عبّر مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر الذي يُنهي اليوم زيارة بدأها الاربعاء لبيروت واقتصرت لقاءاته فيها على المجتمع المدني وعدد من الشخصيات السياسية غير الرسمية ونواب مستقيلين في رسالةٍ اعتُبرت بمثابة «ربْط نزاع» مع المرحلة الانتقالية في لبنان.
وكان لافتاً تأكيد شينكر لصحيفة «النهار» أنه لا يمكن «للحكومة أن تواصل العمل كان شيئاً لم يحصل في لبنان. الأمور تغيرت. ثمة حاجة الى الاصلاح والمحاسبة ومكافحة الفساد والحياد»، معلناً «ننظر في تفاصيل الخطة الفرنسية. وبالتأكيد نقدر المبادرة والجهود الفرنسية. ومع ذلك، لدينا اختلافات صغيرة. ولدينا شرط مسبق للمساعدة المالية للحكومة اللبنانية، وهو ليس التزامها الاصلاح فحسب وإنما تنفيذه أيضاً. وثمة نقطة ثانية تتمثل في أننا لا نؤمن بأن (حزب الله) منظمة سياسية شرعية وإنما منظمة ارهابية. وموقفنا واضح من (حزب الله). ليس ميالاً للاصلاح، وإنما استفاد من الفساد أيضاً واعتمد عليه».