كتبت رلى إبراهيم في صحيفة “الأخبار”:
كان من المفترض أن تتحول «نقمة» الأزمة الاقتصادية الى «نعمة» لمختلف القطاعات الصناعية المحلية، ما يعني إنتاج بدائل للمنتجات الأجنبية الباهظة الثمن. لكن غياب المعامل اللبنانية واعتماد السلع المصنعة محلياً على مدخلات أجنببة أبقيا سعر المنتجات مرتفعاً نسبياً. يحتاج الأمر الى سياسة اقتصادية واضحة لإنعاش هذه القطاعات؛ المهمة مناطة بالدولة ووزاراتها، والطرفان غائبان.
«لبنان بلد السياحة والخدمات»، امتيازٌ ظل لعشرات السنوات مدعاة فخر. لكن كان لا بدّ لاقتصاد يستورد ويستهلك من دون أن يزرع وينتج أن يقع. حَلّت أزمة الدولارات، فانهارت كل القطاعات بسرعة فائقة. الملبوسات والمنتجات والأغذية والأدوات الكهربائية والإلكترونية وقطع الغيار والمواد الأولية جميعها، باتت ترفاً. انخفض الاستيراد في الأشهر الستة الأولى من العام الجاري بنسبة 50%، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. جولة في المتاجر تعكس زمن الشح الذي وصل إليه سكان لبنان قسراً. لكن، ثمة من وجد في تلك الأزمة فرصة للاستثمار بأراضيه المتروكة والانطلاق الى إنتاج صناعات محلية صغيرة تسدّ جزءاً صغيراً من حاجة السوق الكبيرة. فبدأت تتكاثر المنتجات اللبنانية داخل المحال، لتفرض نفسها على المستهلك مقارنة بأسعار باقي المنتجات المشابهة لها. صار واجباً استبدال سائل التطهير المستخدم في تنظيف المسطحات بآخر لبناني. فعلى سبيل المثال، سعر المنتج الإماراتي يفوق سعر المنتج اللبناني بنحو 18 ألف ليرة لبنانية. حصل هذا التفاوت في الأسعار نتيجة ارتفاع سعر المنتج الأجنبي مع ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الليرة. ذلك لم يمنع بعض التجار من استغلال الأزمة لرفع سعر المواد محلياً، ما أدى الى تفاوت كبير في أسعار المنتجات اللبنانية هي الأخرى.
يرى الوزير السابق فادي عبود أن المنتجات اللبنانية رخيصة نسبياً بالمقارنة مع المنتجات الأجنبية. وبنظره، القول إن الأسعار متقاربة ظالم، فأحد المشروبات الغازية المصنوع لبنانياً هو من الأرخص في العالم إلى درجة أن بعض التجار يصدّرون منه. ينسحب الأمر على البسكويت والشوكولا المصنّعة محلياً، والعصائر والمياه المعدنية. أيضاً، كلفة المنتجات البلاستيكية الخفيفة في لبنان «منخفضة جداً مقارنة بأسعار المنطقة، وخصوصاً بعد الأزمة». لكن ما يحدث اليوم من ارتفاع في أسعار المتجات المحلية «يتعلق بطريقة توضيب المواد الغذائية أو الصناعية، إن كان عبر أكياس بلاستيك أو في مراطبين زجاجية. وتلك سلع مستوردة ومشكلتها الرئيسية اليوم أن الشركات العربية والأجنبية دأبت على تسليمنا البضاعة مع منحنا 90 يوماً للدفع في الماضي. أما اليوم، فتريد كامل الدفعة مسبقاً قبل التسليم ومن دون أي فترة سماح». لذلك، يضطر المستورد اليوم الى تسليم الدولارات بالتزامن مع «وضع الطلبية»، الأمر الذي يمنع التاجر من الاستفادة من الدعم، فيشتري الدولار بحسب سعر السوق السوداء. «ارتفعت أكلاف المواد الأولية»، يقول عبود، لكن «أكلاف إنتاجنا انخفضت بشكل كبير لأن راتب العامل والضمان وفاتورة الكهرباء والمازوت بقيت على حالها بالليرة اللبنانية، وانخفضت إذا ما تم احتسابها بالدولار». ثمة مشكلة أخرى تتمثل بعدم وجود أي مصنع للزجاج في لبنان، فيرتفع سعر كل السلع التي يدخل الزجاج في تصنيعها أو توضيبها. لذلك لا يمكن الحديث عن ارتفاع في سعر النبيذ أو مربى التوت وزيت الزيتون والخل والعصير والكبيس وغيره من دون احتساب كلفة العبوات الزجاجية الفارغة المستوردة. «كان لدينا أحدث مصنع للزجاج في المنطقة الذي عمل بالتعاون مع شركة «سان غوبان» الفرنسية، لكنه أقفل أبوابه لأن إنتاج الزجاج يتطلب طاقة مكثفة»، بحسب رئيس جمعية الصناعيين فادي الجميل. كما خسر لبنان «مصنعاً لإنتاج الزجاج المسطح وآخر لتصنيع العبوات الزجاجية والذي يعتبر ضرورة للصناعات الغذائية التي تشكل أهم قطاع تصديري للبنان». إذاً، كان في لبنان 3 معامل زجاج، اثنان أقفلا أبوابهما، والثالث تعرض للقصف الإسرائيلي. السبب الرئيسي للإقفال يعود الى «غياب دعم الدولة للصناعات التي تحتاج الى طاقة مكثفة، علماً بأن كلفة الدعم وفق وزارة الطاقة هي 35 مليون دولار سنوياً فقط، وهذا رقم زهيد إذا ما قورن بعجز كهرباء لبنان الذي يفوق المليار ونصف مليار دولار سنوياً». هذا الدعم «يسمح بتوفير 7000 فرصة عمل ويطال قطاعات أساسية مثل صناعة الزجاج وتدوير الورق وصناعة البلاستيك وقطاع الغزل». لكن هذه القطاعات الأساسية الرافدة لقطاعات أخرى تنهار واحداً تلو الآخر.
كان هناك 3 مصانع للزجاج في لبنان، اثنان أقفلا والثالث دُمّر بالقصف الإسرائيلي
يصعب خفض أسعار السلع المنتجة محلياً، إلا في حال كانت غالبية المواد الداخلة في صناعتها لبنانية (من ضمنها الزجاج والنايلون وغيرها من مواد التغليف والتوضيب). ويشير أحد الخبراء الاقتصاديين الى أن معملين للزجاج باتا شبه جاهزين للعمل في منطقة البقاع. لكن ذلك لا يكفي. ليس الزجاج المشكلة الأساسية، بل الأزمة شاملة وتمتد الى كل المدخلات الأجنبية التي تشترى «كاش». يحتاج الأمر، وفقاً لوزير الاقتصاد السابق منصور بطيش، الى «بناء سياسات اقتصادية بالتنسيق بين وزارات الزراعة والصناعة والاقتصاد، تحدّد ماذا يجب أن نصنّع ووجهات الدعم وتحفز الصناعات الخفيفة… على أن الخطوة الأولى تكون بإقرار قانون المنافسة لمنع الاحتكار». دول مثل مولدوفيا وغيرها في شرق أوروبا أنشأت شركات كبيرة للصناعات الخفيفة: «لا أرى ما الذي يحول دون سير لبنان على الطريق نفسها لتصنيع الزجاج وأكياس النايلون وبعض قطع غيار السيارات.. أن ننتج سلعاً لبنانية بالكامل ونصدرها بدل استيرادها». الخطوة الثانية تكون «بتأمين قروض مدعومة في المكان الصحيح، فيما تم صرف 5 مليارات دولار سابقاً على قروض مدعومة لغير مستحقيها». أما الخطوة الثالثة، فتقتضي وضع رسوم على بعض المستوردات. قبل نحو عام، وضع بطيش لائحة ببعض السلع لزيادة الرسوم عليها حمايةً للإنتاج المحلي، لكن قراره لم يُنفذ، حتى في عزّ الأزمة التي تخنق البلد وناسه. «المطلوب من الدولة أن تعمل على تأمين صمود المؤسسات الصناعية»، يقول الجميل. “كان يفترض أن يكون القطاع الصناعي في ذروة عمله الآن”. كل البرامج الاقتصادية تحدثت عن المنتجات التي يمكن تصنيعها في لبنان والمراهنة عليها. ورد ذلك في خطة ماكينزي وفي دراسة أجراها المركز اللبناني للدراسات بالتعاون مع جمعية الصناعيين: «تتجه الصناعة اليوم نحو منظومة 4.0 التي تعتمد على الديجيتال وتتناسب تماماً مع اهتمامات الشباب اللبناني من جهة، وعلى توفير فرص عمل لهم وفتح آفاق صناعية جديدة من جهة أخرى. لمواكبة التطور، نحن بحاجة الى إعداد شهادات جامعية تقنية».
النبيذ اللبناني يسابق الويسكي
مع بدء الأزمة الاقتصادية، حافظ النبيذ اللبناني على سعره، قبل أن تبدأ الزيادة تدريجياً لتصبح أسعار الزجاجات مضاعفة عن سعرها الأصلي من دون أي مبرر. فبدلاً من أن يستغل مصنّعو النبيذ هذا الظرف لتعويم إنتاجهم ومنافسة النبيذ الأجنبي الذي يغرق السوق، بات بعض أصناف النبيذ الفرنسي والايطالي أرخص من بعض النبيذ المصنّع محلياً. لا يملك الخبراء الاقتصاديون ولا المنخرطون في مجال الصناعة أي تبرير جدّي لـ«دوبلة» أسعار النبيذ المحلي، حتى لو كانت الحجة ارتفاع سعر الزجاج المستورد أو الحديث عن «النوعية». فسعر الزجاجة والفلينة والمادة الحافظة لكل قنينة هو دولار واحد، بحسب أحد الخبراء، ما يعني 7 آلاف ليرة، ما يعني إضافة 5500 ليرة إلى السعر الأصلي. لكن مضاعفة السعر يتعلق هنا بالجشع فقط، فيما هي فرصة ذهبية لمصانع النبيذ في ظل ارتفاع قيمة زجاجات الويسكي والفودكا وغيرهما الى ما فوق مئتي ألف ليرة. لكن جلسة «نبيذ وأجبان، باستخدام المنتجات المحلية، ستكلف أكثر من مئة ألف ليرة، لزجاجة واحدة وقالب جبنة واحد؛ إذ يبلغ سعر قالب الحلوم اللبناني اليوم (كلغ واحد) نحو 50 ألف ليرة، وأصبح تذوّق العائلات له ترفاً.