كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:
لو كنا في بلد طبيعي، لما تردّد البعض في وصف المبادرة الفرنسية، بأنّها تدخّل فاضح في الشؤون الداخلية اللبنانية، ولقامت الدنيا ولم تقعد في وجه هذا التدخّل. ولكن طالما اننا في بلد غير طبيعي، ووضع غير طبيعي، وفي ظلّ سلطة او بالأحرى سلطات غير طبيعية، وقوى سياسية غير طبيعية في علاقاتها ببعضها، وفي رفضها لبعضها البعض واصرارها على عدم الالتقاء على كلمة سواء، وافتقادها بغالبيتها – حتى لا نظلمها كلّها – للحدّ الأدنى من الانتماء الى هذا البلد، فمن البديهي أمام سقوط البلد من ايدي الجميع، ان نتعلّق بقشّة المبادرة الفرنسية، ومن الواجب الإقرار بأنّ من حسن حظ بلدنا أنّ يتدبّر الخارج أمره، ويرسم له ما يعتبرها طريق الخروج من رمال الكوارث المتحركة التي تبتلعه.
ما هو أكيد أنّ المبادرة الفرنسيّة أقوى من أن يتمكّن أيّ من أطراف السياسة في لبنان على اعتراض مسارها وتعطيلها؛ مؤيّدوها لم تطمئن قلوبهم، حتى لمسوا الغطاء الاميركي لها، واما معارضوها الذين قبلوا بها على مضض، فصاروا يبحثون عن ثغرة ينفذون منها إلى التأكّد بأنّها مكشوفة أميركيًّا، بما يجعل المبادرة الفرنسية آيلة للسقوط بـ”فيتو” أميركي يطيح بها باعتبارها تعيد انتاج السلطة ذاتها، التي قامت في وجهها ثورة 17 تشرين الاول، وتمدّ عهد الرئيس ميشال عون ورموزه بحيويّة ومعنويات كان يتمناها، بعدما فقدها، او بمعنى ادق، افقدته إيّاها ثورة 17 تشرين وما تلاها من حراكات.
الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون فاجأ معارضي السلطة بمبادرته، وشبّهه أحدهم بذلك الوالد الذي شكا له جاره اقدام ابنه على سرقة دراجة ابن جاره، فاحتدّ الوالد، ورعد بصوت أرعب جاره، وانتفض في وجه ابنه ونادى عليه قائلا: “تفو عليك، ليش سرقتها يا حبيب قلبي، ولَوْ يا تقبرني، هيك زعّلت جارنا، معليش خليك إلعب فيها بس انتبه ما توقع عنها، وبس تخلص تعا عالبيت”. ولم يقل له رجّع “البيسكلات” لصاحبها. فماكرون جلد السلطة الحاكمة وأنّبها، وجرّح بها، وشهّر بفسادها، لكنّه بعد كل ذلك عاد ليسلّمها زمام الأمور من جديد، ويوكل اليها مجتمعة، مهمّة التغيير والانقاذ.
وبقدر ما كانت مفاجأة هؤلاء المعارضين كبيرة من ماكرون، بل، كانت مفاجأتهم بقدر أكبر من “الصديق الاميركي” الذي أبلغهم صراحة بأنّ المبادرة الفرنسية منسّقة مع الولايات المتحدة الاميركية.
اكثر من ذلك، فإنّ مساعد وزير الخارجية الاميركية دايفيد شينكر، فاجأ من التقى بهم بأنّه كان كمن يرتدي قفازات ملاكمة، وسدّد اليهم لكمات موجعة بانتقاداته المباشرة لحراك لم يتمكن من التوحّد حول برنامج، ولا أن يُحدث تغييراً منذ تشرين الى اليوم، ولا أن يكون بديلاً عن السلطة، وصولاً الى الضربة القاضية التي وجّهها الى مطلب اجراء الانتخابات النيابية المبكّرة. وتبعاً لذلك سارع بعض الحراك الى الاعلان عن خروجه من الشارع!
لقد كانت بالفعل لكمات موجعة، أشعرت المعارضين بإحباط، وبأنّهم وصلوا الى نصف البير وقُطع الحبل بهم؛ فالمبادرة الفرنسية تسلّم بالسلطة الحاكمة، وقول الأميركيين إنّ هذه المبادرة منسّقة معهم، معناه انّ الاميركيين مسلّمون بدورهم بهذه السلطة ورموزها أنفسهم. وبالتالي كلّ الكلام الذي توالى منذ 17 تشرين 2019 وحتى اليوم، عن التغيير كان بلا أي معنى. حتى أنّ موضوع العقوبات التي قال شينكر انّها ستصدر خلال هذا الأسبوع على حلفاء لـ”حزب الله”، لم يخفّف من وقع المفاجأة أو بمعنى أدق الصدمة، فلم يقاربه المعارضون كحدث استثنائي يمكن ان تكون له مفاعيله، ذلك أنّ العقوبات “مش واوْ” على حدّ توصيف مروان حمادة. وشينكر كان شديد الحرص على ألاّ يُفصِح أمامهم عن حجم هذه العقوبات، وعن أي إسم ممن ستشملهم!
ورغم انّ شينكر قد صرّح في العلن بأنّ زيارته محصورة بلقاءات مدنية وحراكية، سعى الى عقد لقاءات سياسية من غير الصف الأول في السفارة الاميركية في عوكر بعيداً من الاعلام، لكنه لم يوفق في ذلك، فبعض من وُجّهت اليهم الدعوات للقاء به اعتذروا، مثل النائب وائل ابو فاعور. وهناك من سأل عن الغاية من اللقاءات غير العلنية، في الوقت الذي قال شينكر علناً انّه لا يريد ان يلتقي بالسياسيين؟ ثم إذا كان القصد من ذلك هو “الاستئناس بالآراء حيال المستجدات السياسية والحكومية وشرح الموقف الاميركي، فموقف واشنطن عبّر عنه وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو بـ”اننا نعمل مع الفرنسيين في لبنان، ولدينا الأهداف نفسها”، وكذلك عبّر عنه مساعده لشؤون الشرق الأدنى دايفيد هيل في لقاءاته الواسعة والمباشرة وجهاً لوجه مع سياسيي الصفّ الأوّل منتصف الشهر الماضي”.
لماذا حضر شينكر؟
مطلعون على الموقف الاميركي، يؤكّدون انّ جوهر زيارة شينكر كان مرتبطاً بملف ترسيم الحدود تحديداً، والمعنيون بملف الترسيم البحري كانوا في اجواء الزيارة قبل وصول شينكر، إلاّ اّن ثمة أمراً ما قد طرأ في آخر لحظة عدّل برنامجه.
ويؤكّد هؤلاء، أنّهم ليسوا في اجواء وجود خلاف متجدّد حول ملف الترسيم، او انّ العائق هو من الجانب اللبناني، الاّ اذا كان خلف الأكمة ما خلفها، ذلك انّ هذا الملف، وربطاً بالمحادثات التي كانت تجري بشكل متتابع في الاسابيع الأخيرة، انتهت الى وضع اطار، بحيث لم تعد هناك نقاط خلاف، بل على العكس، صار هذا الاطار جاهزاً للاعلان عنه فقط.
ضمن هذا السياق، جاء اللقاء بين شينكر ومستشار رئيس مجلس النواب علي حمدان، بناء على طلب المسؤول الاميركي، وحرص من خلاله شينكر على إيصال رسالة الى الرئيس بري، بأنّ ملف ترسيم الحدود البحرية ما زال ضمن دائرة الاهتمام الأميركي. وفي اللقاء الذي دام لأكثر من ساعة، جرى استعراض مستجدات الملف، والموقف الاسرائيلي، وكذلك تأكيد حمدان على موقف الرئيس بري لجهة تمسّك لبنان بسيادته على مياهه وكامل حدوده.
وفي الخلاصة، فإنّ شينكر لم يحمل أيّ جديد يعتد به لناحية حسم الاطار الذي تمّ وضعه والجاهز للاعلان عنه، بل انّ هذا الأمر سيكون على بساط البحث مع رئيس مجلس النواب، خلال زيارته المقبلة الى بيروت قبل نهاية الشهر الجاري.
ولقد سبق للرئيس بري أن اكّد على التقدّم في ملف الترسيم، وفصّل ما آل اليه هذا الترسيم بقوله: “هذا الملف بين يدي منذ 11 عاماً، أولى مشكلاته بيني وبين الامم المتحدة كانت لإقناعها بمسؤوليتها عن ترسيم الحدود. وفي السنة السادسة دخل الاميركيون على الخط، وبلغ عدد المتعاقبين على هذا الملف نحو خمسة مسؤولين، والآن وصلنا الى الخواتيم، ونحن اليوم في مرحلة تحديد موعد الاعلان عمّا اتفقنا عليه، وهو اطار محادثات الترسيم وآليتها، وليس الترسيم النهائي. وما أن يتمّ هذا الاعلان، أتخلّى أنا عن الملف، وينتقل فوراً الى المراجع المعنية بالتفاوض، كرئاسة الجمهورية والحكومة والجيش. ولا تعود لي عندئذ أيّ علاقة. فلست انا مَن يرسّم الحدود، بل المفاوضات التي تجريها السلطة الإجرائية. لقد وضعت الاطار والآلية الضروريتين لمصلحة لبنان وحقوقه فقط. وقد قلت هذا الكلام للرئيس إيمانويل ماكرون عندما اجتمعت به في حضور رئيسي الجمهورية والحكومة”.
طالما أنّ الاطار متفق عليه وصار في مرحلة الاعلان، فما الذي يؤخّره؟
لا يوجد شيء مجاني لدى الدول، فكل شيء له ثمنه او مقابل له يعادله وأكثر. هذا ما يؤكّد عليه خبراء في علاقات الدول الكبرى بالدول الصغرى. ويقول هؤلاء، انّ للمبادرة الفرنسية اسبابها العديدة: الحنين الدائم الى لبنان والدور الفاعل فيه، نفوذهم في لبنان، علاقتهم التاريخية مع لبنان، الوضع المسيحي، مصالح فرنسا وشركاتها، موطئ قدم للعودة الى المنطقة في ظلّ التنافس مع الاتراك الذين يحاولون انعاش حلم امبراطوريتهم القديمة في الشرق. ويضاف الى ذلك سبب اساس، وهو الجانب الشخصي لدى ماكرون، بأنّه يريد ان يحقق انجازاً لبنانياً ينعكس عليه ربحاً في الداخل الفرنسي. وقال صراحة لمن التقاهم في قصر الصنوبر: “رصيدي السياسي والشخصي وضعته في هذه المبادرة”.
واما ملف ترسيم الحدود، والكلام للخبراء، فلا ينفصل عن اجندة الاستثمار الاميركي عليه في الانتخابات الرئاسية الاميركية. فكما هو واضح، فإنّ ادارة دونالد ترامب تجهد عشية الانتخابات الى تجميع العدد الاكبر من الانجازات الخارجية المرتبطة باسرائيل مباشرة، والتي تخدم ترامب في معركته الرئاسية. وعلى ما يبدو، انّ الاميركيين نحّوا الترسيم جانباً لفترة مؤقتة، اسبوع او اثنين او اكثر، ليصار الى اعلان الاتفاق حوله على مسافة قريبة من الانتخابات في تشرين الثاني، فيُقدّم كأحد الانجازات التي يحاول ترامب ان يؤسس عليها لولاية ثانية له في البيت الابيض.