قد لا يقولها المسؤولون الأميركيون صراحة. وقد تقتصر تصريحات مساعد وزير الخارجية ديفيد شينكر، أثناء زيارته إلى بيروت، على تصريحات سياسية حول كيفية التعامل مع «حزب الله»، الذي تصنفه الولايات المتحدة، تنظيماً إرهابياً، ومع حلفاء للحزب، هدد بفرض عقوبات عليهم.
ما لا يقوله المسؤولون علناً، ولكن تعكسه تصرفات الحكومة الأميركية إدارياً، أن واشنطن بدأت تستعد للتعامل مع لبنان كـ«دولة فاشلة».
في العقد الماضي، كانت الولايات المتحدة تخصص برامج مساعدات للحكومة والمنظمات غير الحكومية، على اعتبار أن لبنان دولة نامية. المشاريع الأميركية تضمنت رعاية التنمية الاجتماعية وإصلاح مؤسسات الدولة. مثلاً، منحت واشنطن عقوداً لجمعيات تنموية قامت بدراسات حول وضع المرأة في لبنان، وعقدت مشاريع لتدريب القادة من النساء اللبنانيات. كما موّلت الإدارات المتعاقبة مشاريع تدريب على إدارة الانتخابات، وتطوير عمل الجمعيات التي تقوم بمراقبة الانتخابات.
على مدى السنة الماضية، تغيرت رؤية البيروقراطية الأميركية تجاه الوضع اللبناني، وقامت الإدارة – بقرار تقني بحت وغير سياسي – بتغيير المشاريع التي تدعمها في لبنان، من تنمية مجتمعية وإصلاحات إدارية، إلى مشاريع احتواء الأزمات والكوارث، من انفجار مرفأ بيروت، في الرابع من أغسطس الماضي، إلى الفقر والجوع الذي يصيب، حاضراً ومستقبلاً، عدداً كبيراً من اللبنانيين والمقيمين في لبنان.
هكذا، لم تعد «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» (يو اس ايد) تستدرج عروضاً من مؤسسات التنمية الأميركية المتخصصة بشؤون الانتخابات، أو شؤون المرأة، أو الإصلاح الإداري، بل قامت بنقل الأموال المرصودة للبنان إلى «مكتب المبادرات الانتقالية» (أو تي آي)، المعني بمكافحة الأزمات في مناطق الصراع وتقديم المساعدات الإنسانية الطارئة.
وعلى موقعه، يعرّف المكتب الأميركي عن نفسه بأنه يقدم «مساعدة سريعة، ومرنة، وقصيرة الأجل، تستهدف التحول السياسي الأساسي واحتياجات الاستقرار».
وتضيف الصفحة التعريفية أن «مكتب المبادرات الانتقالية» تم تصميمه بشكل إستراتيجي للتعامل مع كل حالة على حدة، ودعم التنمية من خلال تعزيز المصالحة، وتحفيز الاقتصادات المحلية، ودعم وسائل الإعلام المستقلة الناشئة، وتعزيز السلام والديموقراطية… «في البلدان التي تنتقل من الاستبداد إلى الديموقراطية ومن العنف إلى السلام»، أو في الدول التي تعيش في «سلام هش».
ولا تعتقد الوكالات الحكومية الأميركية، أن لبنان يعاني من اهتزاز الأمن السياسي فيه، لكنها تخشى اهتزاز الأمن الاجتماعي وارتفاع معدلات الفقر والجريمة، وهو ما يحوّل البلاد إلى أرض خصبة لنشوء تنظيمات إرهابية في السنوات المقبلة. لهذا، سارعت وكالات التنمية في إيفاد مدير «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» جون برسا إلى بيروت، في الأيام التي تلت انفجار المرفأ، الذي نجم عن نحو 2700 طن من مواد نيترات الأمونيوم.
وذكرت الوكالة في بيان، أنه أثناء تواجده في لبنان، قام برسا بالإشراف على جهود الوكالة في استجابتها للكوارث، وعمل على تقييم الوضع على الأرض، والتقى فريق الاستجابة للمساعدة في حالات الكوارث، والذي تم نشره في بيروت في السابع من أغسطس لقيادة جهود الاستجابة الإنسانية الأميركية. وأضافت أن فريق الوكالة يعمل على «تقييم الضرر وتحديد الاحتياجات الإنسانية وتنسيق الجهود لتقديم المساعدة الفورية».
في هذا السياق، التقى المسؤول الأميركي في بيروت مع مسؤولي «برنامج الأغذية العالمي»، وتم التنسيق لتقديم مساعدات غذائية لـ 300 ألف شخص تضرروا من انفجار المرفأ. كما قدمت الوكالة «إمدادات طبية طارئة لدعم 60 ألف شخص لمدة ثلاثة أشهر».
قد ينشغل السياسيون والمعلقون في لبنان، كما في عواصم العالم، بالعناوين السائدة حول سلاح «حزب الله» والفساد الإداري والانهيار الاقتصادي. لكن وكالات الإغاثة والتنمية في الولايات المتحدة وحول العالم، تدرك أن الأزمة التي يواجهها لبنان أعمق بكثير من الأزمات السياسية، وأن الأزمة المعيشية قد تتطلب تدخلاً إغاثياً دولياً واسع النطاق للحد من إمكانية اندلاع مجاعة.
ويعتقد الخبراء الأميركيون، أن الأمور في لبنان ستمضي بالتدهور بوتيرة أسرع مع مطلع العام المقبل، وهو الموعد الذي تتوقع فيه غالبية الاقتصاديين اللبنانيين والدوليين نفاد آخر احتياطات النقد الأجنبي في لبنان، وهو ما سيؤدي إلى رفع الدعم الحكومي عن المواد الغذائية الأساسية، ويضع هذه المواد خارج متناول مئات الآلاف، بل الملايين، في لبنان.
ومع مضي العملة اللبنانية في التراجع، يصبح راتب القوى الأمنية والموظفين الحكوميين بلا قيمة، وهو ما يفاقم من الفساد ويسرّع من كل أنواع الجرائم.
لهذا السبب، تستعد وكالات واشنطن للتعامل مع انهيار كبير، وهو ما يتطلب تدخلاً على غرار التدخل في «الدول الفاشلة» حول العالم والتي يتهدد الجوع سكانها الذين يعانون من الفقر وارتفاع معدلات الجريمة.
أما إمكانية الإصلاح في لبنان، فتبدو منعدمة – حسب رأي الخبراء ومسؤولي وكالات الإغاثة الأميركيين – لأنها ترتبط بأزمة إقليمية كبرى، أي سلاح «حزب الله»، الذي يراه الخبراء، غير دستوري، والذي يدفع الحزب إلى تقديم الحماية للمسؤولين الفاسدين للسكوت عنه، ويمضي السلاح والفساد في حماية بعضهما البعض.
المسؤولون الأميركيون من أمثال شينكر، ومن هم أرفع منه مرتبة، يتحدثون في شؤون السياسة المرتبطة بالمنطقة ولبنان، لكن مسؤولي وكالات الإغاثة الأميركيين والأممين يتباحثون – بعيداً عن الأضواء – في كيفية احتواء ما يرونها كارثة إنسانية مقبلة على اللبنانيين، «من دون ضوء في آخر النفق»، وهو التعبير الأميركي الموازي لـ «من دون حل في الأفق».