كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
بفارق ساعات قليلة مرّ بلبنان كلّ من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ومساعد وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الادنى ديفيد شينكر. وبمعزل عن الفارق بين صفتي الضيفين، فقد تناولا الملف عينه، وما سجّل من مفارقات بُني على غياب لقاءات شينكر الرسمية ومعها السيناريوهات التي أوحت بمشروع خلاف بينهما. فهل هناك ما يثبت ذلك؟ وإن أُخضغت المعادلة للنقاش ما الذي يمكن ان تقود إليه؟
حتى كتابة هذه السطور ليس من السهل تبيان اي خلاف اميركي ـ فرنسي على المستوى الإستراتيجي حول المبادرة التي اطلقها الرئيس ايمانويل ماكرون في لبنان. وانّ التوسّع في الحديث عن خلافات كبيرة تهدد المبادرة في توقيتها وشكلها ومضمونها هو مجرد وجهات نظر تُلبّي رغبات وأماني البعض أو نتيجة نقص كبير في الحصول على معلومات دقيقة لما شهدته الصالونات السياسية والديبلوماسية التي استضافت ماكرون وشينكر ومعهما عدد كبير من الدبلوماسيين الغربيين، حيث تقدمت لائحة النقاط المشتركة على تلك الخلافية، والتي يمكن حصرها – إن كان الخلاف كبيراً – حول أولوية اي خطوة على أخرى. وانّ خريطة الطريق التي وضعها ماكرون أخذت في الاعتبار كثيراً ممّا ينادي به المجتمع الدولي على قاعدة انّ «كل الطرق تؤدي الى الفاتيكان».
ولمزيد من التفاصيل، فقد أجمعت المراجع السياسية والديبلوماسية المطّلعة على اعتبار المبادرة الفرنسية إطاراً لِما يمكن تسميته المبادرة «الواقعية»، التي تجمع أكبر عدد ممكن من النقاط القابلة للتطبيق قياساً على حجم التعقيدات التي تعكسها الأزمة اللبنانية بعدما تشابكت وجوهها النقدية والإقتصادية مع الأمنية والصحية نتيجة جائحة «كورونا»، قبل ان تتقدم النكبة التي حَلّت بعد انفجار المرفأ بتردداتها. فعُدّت أخطرها واكثرها إيلاماً، وتجاوزت عند تلازمها مع التدخلات الخارجية ما لا يمكن ان يحتمله البلد الصغير.
وتأكيداً لهذه الأجواء، فقد أجمعت هذه المراجع على وصفها «الغارة» المتعددة الأهداف التي شنّها ماكرون، واعتبرت انها لم تكن بعتاد وأسلحة فرنسيين فحسب. وقد اكدت ذلك مجموعة نصائحه ووعوده، مُرفقة بسيف المحاسبة والعقوبات الذي شهره بالتعاون مع رؤساء دول أخرى. وأضاف اليها في ضغوطه ما يملكه من المآخذ والإتهامات التي جمعها في حق أكثرية من التقاهم من خلال مشاوراته الدولية التي سبقت مبادرته قبل المخاطرة بها. وكلّ ذلك كان بغية تحقيق ما تمناه من الضمانات والتعهدات التي تكفل تحقيق ما تم التفاهم في شأنه.
وفي ضوء هذه المعطيات الدقيقة، يظهر انّ ماكرون لم يكن يتحدث باسمه فقط، لا بل كان متحدثاً باسم أطراف عدة، فأعطى لطهران وواشنطن والرياض ما لها، وحفظَ للأبعدين والأقربين، ممّن لهم موطىء قدم في المنطقة ولبنان، أدوارهم ولو بِنسَب متفاوتة. فهو تحدث باسم بلاده بالتأكيد، ولا نقاش في كونه متحدثاً باسم الاتحاد الاوروبي فهو من قادته البارزين. وإن حكى باسم واشنطن فهذا الأمر ممكن ومنطقي، لأنه لم يزعجها بأي خطوة وما ناله من رضى وزير خارجيتها مايك بومبيو في حديثه عن وحدة الرؤية والاهداف الأميركية والفرنسية يكفي، وزاد عليه ما كشفه شينكر في لقاءاته اللبنانية.
ولا يبدو ايضاً انّ ماكرون أغاظ الجمهورية الاسلامية الايرانية، فالفريق الذي يعاونه في فكفكة عقد الازمة اللبنانية، هو نفسه الفريق المكلف منذ فترة طويلة بتنسيق العلاقات الفرنسية – الإيرانية. ولِمن لا يصدّق عليه احتساب تجاوب «الثنائي الشيعي» مع المبادرة، لا بل التهليل لها والاعتداد بأنّ ما انتهت اليه وكأنه قد «عُجِن» و»خُبِز» ما بين الضاحية الجنوبية وعين التينة في ظل وجود «نقزة» عبّرت عنها المعارضة، ولم يكن سهلاً تجاهلها إن حاول البعض إخفاءها لسبب من الأسباب.
وعليه، وإن لجأ الديبلوماسيون الذين يؤيّدون هذه النظرية الى الوجه الآخر الذي رسمته زيارة الموفد الأميركي ديفيد شينكر، يبدو لهم أنّ هناك تناغماً كبيراً بين واشنطن وباريس حول ما نسجه ماكرون في بيروت، فهو تجرّأ على بعض المواقف مستنداً الى ما تم التنسيق والتفاهم معهم في شأنه من قبل، وهم ينتظرون النتائج التي يمكن ان يحققها. ولا يمكنهم رفض ما قال به الزائر الفرنسي، فقد ترجم بالفرنسية ما عبّروا عنه بالإنكليزية في الفترة الأخيرة، وخصوصاً لجهة تشديده على الاصلاحات الملحّة.
وإنْ رُصِد أيّ خلاف بينهما فهو في التكتيك، وإن توقّف البعض عند عدم لقاء شينكر بأيّ مسؤول لبناني عليه الاعتقاد انّ «دروس» ماكرون «الداخلية» كافية، وهو مكلّف بـ»الدروس الخارجية». ولو كانت المبادرة لواشنطن لربما قدمت ملف السلاح على رأس اولويات الحل لإخراج البلاد من مجموعة الازمات الخانقة التي تهدد مصير الدولة ومؤسساتها، وإمكان أن يتحول لبنان بين لحظة وأخرى بلداً فاشلاً ومارقاً يلقي بتَبعات أزماته على المنطقة والعالم.
وبناء على كل ما تقدّم، وأبعد من حَصر الموضوع بالمواقف الأميركية ـ الفرنسية، يدرك الجميع انّ حل بعضٍ من العقد القائمة وفق سلم الأولويات الفرنسية سيؤدي في النتيجة الى اعادة طرح مصير السلاح غير الشرعي لأنه امر غير مقبول بكل اللغات، ولأنه يعوق استعادة سيادة الدولة وحصر مسؤولية الأمن بقواها الشرعية، الى ما هنالك من ضمان عناصر الاستقرار التي وفّرت الرعاية الدولية للبنان في السنوات الماضية، قبل ان يُخلِف اللبنانيون بتعهداتهم. فانتقل البلد من حال الى حال، وتعرّض لما تعرض له من كل أشكال الحصار.