كتبت هيام القصيفي في صحيفة “الأخبار”:
اعتادت بعض القوى السياسية التخاطب بلغة حادة، وأحياناً باستخدام تعابير نافرة تصل الى حد الإسفاف. ما حصل في اليومين الماضيين بين التيار الوطني والقوات اللبنانية، المحتفلين بإنجازات لبنان الكبير وثقافة الطائفة التي ينتميان في غالبيتهم إليها، يتخطى كل الأدبيات والسقوف التي رسمت بعد المصالحة بينهما. صحيح أن ما يجري بينهما بات سمجاً، ولا سيما أن السجال فاقع بسخافته وأحقاده اللامتناهية في زمن الموت والإصابات بالعشرات في انفجار المرفأ، وزمن الشحّ المالي والانهيار الاقتصادي، لكنهما كشفا، كل من موقعه، عن أفكارهما الحقيقية من الطروحات القائمة ومنها ما يتعلق بتطوير النظام الحالي.
بين الكلام عن أفكار حول النظام الجديد بعد زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وبين عودة اللغة التي يستخدمها الرئيس نبيه بري، ومن ثم الخطاب الأخير للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، يخرج التيار الوطني والقوات بكلام بعضه مبطّن، وبعضه واضح وصريح، حول مستقبل لبنان من زاويتين. الطرفان يريدان قانون الانتخاب نفسه المعمول به حالياً من أجل إجراء انتخابات نيابية، كل واحد منهما يصعّد، استباقاً لها، خطابه المسيحي الداخلي للبدء بعملية شدّ العصب. التيار يعتبر أن انفجار المرفأ أصابه بالضرر المباشر، وجاءت زيارة ماكرون والأجواء المحطية بها والتسريبات حول عقوبات، وطريقة اختيار اسم رئيس الحكومة مصطفى أديب، لتكبّل حركة رئيس التيار النائب جبران باسيل. طبعاً ليس بإمكان الأخير أن يستكين في أي لحظة، وهو هنا يحاول إعادة تجميع قوته الداخلية كقاعدة انتخابية، مع علمه بكثرة الأضرار التي لحقت به وببعض كوادره.
في المقابل، تبدو حركة القوات مقيدة أكثر، وهي وإن نجحت في إلقاء الضوء والمسؤولية على السلطة في انفجار المرفأ وبرزت أكثر مع تشييع بعض ضحاياه، إلا أنها في معركتها السياسية مع تراجع حلفائها من على جانبها، تريد البقاء أكثر حرية من خارج السلطة، وتفعيل قدرتها على تحسين حصتها بعد تراجع شعبية التيار، مراهنة على استقطاب فئة واضحة في حدة موقفها المعارض للتيار والسلطة. لكن الطرفين باتا مقتنعين بأن الانتخابات وفق القانون الحالي، الذي اختبراه، كفيلة بأن تكون جسر عبور لهما الى البرلمان المقبل. وهما مرشحان لأن يدافعا عنه تجاه أي مطلب بتغييره، بعدما عرفا حسناته وسيئاته، وباشرا تحضير قواعدهما على أساسه.
في النقطة الثانية، يتقاطع التيار والقوات على اللامركزية الموسعة، لكن كل واحد من موقعه السياسي ورؤيته المختلفة عن الآخر. في الآونة الأخيرة، وبعد سلسلة أحداث ومحطات تركت أثرها سلباً في مجتمعَي الطرفين، صار هذا الخطاب ركيزة أساسية في توجّههما السياسي والمجتمعي. بطبيعة الحال، لا يتفق الحزبان على أي ملف سياسي داخلي بالمعنى اليومي، لا بل تختلف جذرياً كل مقاربة لملفات الإدارة والمؤسسات العامة وسياسة لبنان الخارجية، وصولاً الى مواكبة ملفات الكهرباء والفساد.
لكن في المقابل، ثمة خيط رفيع يتقاطع بينهما حول مستقبل النظام في لبنان والعلاقة مع المكونات الأخرى. في مكان ما، لا يزال طيف الفيدرالية يلوح في خطب سياسية غير مباشرة، مغطاة أحياناً كثيرة باللامركزية الموسعة، كسبيل الى مجال أوسع توضع فيه الخلافات السياسية والاجتماعية والطائفية في مكانها الحقيقي. باسيل يكرر منذ شباط الفائت مرات عدة وفي أكثر من مناسبة دعوته الى اللامركزية الإدارية الموسعة، لكن باسيل الذي يضيف إليها «اللامركزية المالية» إنما يضعها من ضمن بنود الطائف التي تحتاج الى تطبيق، وهو وإن انطلق من خلفية تناسب بعض الشرائح المسيحية، إلا أنه لا يطرحها من باب استفزاز حلفائه، لا بل يحاول بوضعها من ضمن سلة متكاملة إخفاء خلفيتها المسيحية بالاقتراب أكثر من الدولة المدنية.
في المقابل، يضعها جعجع رداً على كثرة الطروحات الأخيرة، كحدّ سياسي. فهو كان واضحاً في خطابه الأخير حين أكد أن «محور أي مؤتمر تأسيسي جديد سيكون اللامركزية الموسعة». فهو بذلك اشترط لأي حوار حول هذا المؤتمر البدء بها، كما بحل الميليشيات لاستكمال تطبيق اتفاق الطائف. ورغم أن الطرفين يعتمدان هذا الخطاب منذ سنوات، إلا أن تعويمه في كل مرة يحتدم فيها الخلاف السياسي الداخلي يعطي للمشروع بعداً آخر، وخصوصاً في هذه المرحلة التي عادت فيها لغة طائفية ومذهبية، وسياسية حادة، منذ تظاهرات 17 تشرين، وصولاً الى انفجار المرفأ.
وهنا تكمن مفارقة العائدين الى عداوة مطلقة، وهما يتقاطعان على المشروع، لكن كليهما لا يذهبان الى حد إشهار علني للمطالبة بالفيدرالية، فلا يقتربان من ذكرها بالاسم الذي لا يزال يثير نقزة سياسية وطائفية، لا أكثر ولا أقل.