Site icon IMLebanon

رسالة باريس لعون: “نفّذ ثم اعترض”!

لم تعد كل مفردات المعاجم وقواميس اللغة تسعف في اقتباس وصف ينصف مجموعة مجرمة حاكمة، تفوقت بالأمس على نفسها فأذهلت العالم بعجائب قدرتها على التنكيل باللبنانيين وعاصمتهم. من ظنّ لوهلة بعد انفجار الرابع من آب أنّ جعبة السلطة خلت من المفاجآت القاتلة الهدامة، أتاه العاشر من أيلول ليؤكد يقيناً أنّ مخزونها لم ينفد بعد و”عنابرها” لا تزال تفيض موتاً وتدميراً وتكسيراً وحرقاً وقهراً وعهراً. لبنان لم يمر عليه في أحلك أزمنته وعهوده، أسوأ من زمانه هذا وعهده هذا، كل مصائب الدنيا حلت فوق رؤوس اللبنانيين تحت حكم العهد القائم… عهد باتت تتنازعه الألقاب في توصيف نهاية اللبنانيين المرّة بين يديه، من “أبوكاليبس” التفليسة والجوع والعوز، إلى “هيروشيما” المرفأ وما خلفه عصفها الكيماوي من خراب ودمار في بيروت، حتى جاءت محرقة المرفأ المتجددة أمس ليستحق تحت وهج لهيبها لقب عهد “الهولوكست” اختصاراً لكل معموديات النار التي يعايشها اللبنانيون في ظله، حيث لم يبق أخضر ولا يابس إلا واحترق، ولا قلوب ولا أمال إلا وأضحت مجرد رماد منثور فوق الأنقاض.

وعلى دارج عادة السلطة، هبّ المسؤولون أمس لا لتحمّل مسؤولياتهم بل للتنصل منها فتطايرت التصريحات وأبيات التواشيح على قافية “لا أعلم” ليكون مسك الختام كما دوماً على طاولة المجلس الأعلى للدفاع بمواقف منددة وصارمة في الدعوة إلى تشكيل اللجان وتحديد المسؤوليات! وعلى ذلك، بدا مستغرباً قرار تشكيل لجنة مؤلفة من وزير الأشغال والمسؤولين في المرفأ للتحقيق بأسباب حريق هم أنفسهم يتربعون على رأس قائمة المتهمين بالتسبب به نتيجة الإهمال والتسيّب، سيما أنه وأمام حريق كالذي حصل أمس في نقطة معينة لا تزال تعتبر بمثابة ساحة جريمة (بعد انفجار 4 آب) ومن المفترض أنها تقع مباشرةً بعهدة السلطة وتحت طوق محكم تفرضه القوى العسكرية والأمنية، لكان أول ما اتَّخذته أي دولة تحترم نفسها ومواطنيها من قرارات هو إقالة المسؤولين المباشرين عن أمن المرفأ وسلامته وإحالتهم إلى التحقيق لا تعيينهم ضمن إطار لجنة تحقيق من المفترض أنها ستتولى التحقيق بإهمالهم وتقاعسهم عن تحمل مسؤولياتهم. واستباقاً لنتائج التحقيق، بدأت التسريبات الرسمية من اجتماع مجلس الدفاع في قصر بعبدا تضع اللائمة على أحد عمال الصيانة لاستخدامه “منشاراً كهربائياً” تطايرت نيرانه باتجاه مستوعبات وحاويات زيوت وإلى جانبها إطارات مطاطية، فحصل ما حصل من حريق هائل تفشت سموم دخانه الأسود في سماء ييروت وصدور أبنائها… وليس في هذا التبرير، أكثر من نسخة منقحة مستعادة من قضية تحميل السلطة عامل صيانة سوري مسؤولية انفجار العنبر 12 نتيجة استخدامه معدات تلحيم أدت شراراتها إلى هدم العاصمة وبيوتها فوق رؤوس قاطنيها.

لكن الأخطر إذا صدقت المعلومات الأولية، فثمة مؤشرات تدل على أنّ أيادي جرمية ملطخة بالدم والنهب والفساد تقف وراء افتعال حريق المرفأ أمس لطمس معالم وحقائق متصلة بالمسؤوليات المباشرة وغير المباشرة عن عمليات السرقة والهدر في مرفأ بيروت على مر عقود وعقود، وما زاد منسوب الشك بصحة هذه المعطيات تلك الصور التي تناقلها صحافيون استقصائيون وتوثق تجميع مستندات رسمية قرب مكان الحريق عشية اشتعاله، وصولاً إلى تأكيد رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط ليلاً أنّ أهل السلطة “خافوا من محقق جريء صاحب ضمير أو من موظف نزيه فأحرقوا الأدلة”، جازماً في المقابل بأنّ “هذه السلطة لن تفلت من العقاب ولو بعد حين”.

في الغضون، وبينما تكاد بيروت تتفحّم تحت شرارات أهل الحكم، لا يزال البعض منهم يكابر ويناور طمعاً بحقيبة بالزائد أو اختصاصي بالناقص في تشكيلة مصطفى أديب المرتقبة، ما استدعى بحسب مصادر موثوق بها لـ”نداء الوطن” إيفاد المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم شخصياً إلى باريس بصفته موفداً رئاسياً في محاولة لتدوير زوايا الشروط الفرنسية الصارمة في مسألة تأليف “حكومة مهمات إصلاحية” وفق قواعد محددة سلفاً والتزامات وتعهدات بالتسهيل وعدم العرقلة قطعت للرئيس إيمانويل ماكرون إبان زيارته بيروت، موضحةً أنّ “رئيس الجمهورية ميشال عون ورغم أن دوائره حاولت خلال الساعات الأخيرة التنصل من الصفة الرئاسية لمهمة ابراهيم، إنما في واقع الأمر كان يهدف من دفع المدير العام للأمن العام لزيارة باريس، إلى الالتفاف على الرئيس المكلف مصطفى أديب ومحاولة “كسر عناده” سواءً في مسألة شكل الحكومة أو في حجمها وحقائبها، عن طريق التواصل المباشر مع المسؤولين الفرنسيين في خلية الأزمة المعنية بالملف الحكومي اللبناني على أمل باستصدار “فرمان” ملحق بالمبادرة الفرنسية يتيح تليين موقف أديب قبل انقضاء فترة السماح الممنوحة لتأليف الحكومة الاثنين المقبل، أو أقله السعي إلى تمديد مهلة التأليف ريثما يصار إلى التوصل لاتفاق بين الأفرقاء السياسيين على صيغة التشكيلة الحكومية العتيدة”.

غير أنّ الرياح جرت على ما يبدو بما لا تشتهي مراكب الرئاسة الأولى، في ظل ما نقلته المصادر عن “فشل مهمة ابراهيم في باريس ليعود خالي الوفاض إلى قصر بعبدا برسالة فرنسية حازمة بدت وكأنها تقول للرئيس عون “نفذ ثم اعترض” فلا مجال للتراجع عن التعهدات المقطوعة أو إدخال أي تعديل على جوهر المبادرة المتفق على بنودها مع الرئيس الفرنسي شخصياً في بيروت”، لافتةً في هذا السياق إلى أنّ “جواب باريس أتى ليجدد التأكيد على وجوب احترام مهلة الـ15 يوماً للتأليف وضرورة الالتزام بتشكيل حكومة إنقاذية متخصصة غير خاضعة لأي تسييس أو محسوبيات في تركيبتها وحقائبها، لكي تستطيع نيل ثقة المجتمع الدولي وتعبّد الطريق أمام عقد مؤتمر دعم جديد لحشد المساعدات للبنان”.