إما أن تتشكل حكومة مصطفى أديب في خلال المهلة الفرنسية المحددة ووفق المواصفات التي حددتها باريس، أي أن تعلن حكومة مصغرة من اختصاصيين غير حزبيين، في مهلة أقصاها منتصف هذا الشهر، وينفذ الأقطاب وأهل الحل والربط ما تعهدوا به للرئيس إيمانويل ماكرون والخطة التي اقترحها.. وإما تتعثر عملية التأليف وتتأخر، ما سيرتب تداعيات خطيرة على لبنان ويطفئ بصيص الأمل في النفق المظلم، ويدفع باريس الى وضع سيف العقوبات على الطاولة. وبقدر ما تبدو الرئاسة الفرنسية جدية وحريصة على إنجاح مبادرتها اللبنانية، بعدما بات رصيد ماكرون كله على المحك، فإنها تبدي حذرا وتحذيرا من إعاقة مبادرتها ومن العواقب والكلفة الغالية.
فالإخفاق في تشكيل الحكومة يعني فشل المبادرة الفرنسية وخسارة لبنان الفرصة الإنقاذية الأخيرة المعطاة له.
آخر المعطيات والتطورات المتعلقة بالملف الحكومي جاءت لتكشف عن «صعوبات قابلة للحل» وعن «إرادة سياسية بتسهيل حكومة في أسرع وقت»، و«عن فصل حاصل بين العقوبات الأميركية والمبادرة الفرنسية» رغم ما سببته العقوبات من اهتزازات لا تصل الى حد خلط الأوراق.. ويمكن تلخيص أبرز المعطيات والمستجدات في النقاط التالية:
1 ـ الزيارة الخاطفة للمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الى باريس بتشجيع رئاسي أوجبتها ضرورتان:
٭ الأولى تتعلق بالطريقة التي يشكل فيها الرئيس المكلف مصطفى أديب حكومته في ظل إصراره على عدم التحدث في الموضوع مع أحد وعدم التشاور مع القوى السياسية الوازنة التي ستعطي الحكومة الثقة، وعدم مراعاته توازنات واقعية موجودة في أي عملية تشكيل.
٭ الثانية تتعلق بالإشكالية الحاصلة حول وزارة المال وما أحدثته العقوبات الأميركية من تأثيرات وانعكاسات على مستوى الموقف الشيعي، ولاسيما موقف الرئيس نبيه بري.
2 ـ الجانب الفرنسي، الذي يتابع أولا بأول عملية الحكومة عبر خلية الأزمة، التي شكلها الرئيس ماكرون وتضم مستشاره الخاص إيمانويل بون ومدير المخابرات برنار إيمييه، جاد في إخراج الحكومة الجديدة من تحت تأثير الطبقة السياسية ونفوذها، وفي أن يكون لفرنسا من خلال الحكومة قدرة التأثير على الوضع وتولي دفة قيادة عملية الإصلاح والإنقاذ واستعادة الدور الضائع.. ويكون ذلك من خلال «وضع اليد» على حكومة أديب وانتقاء وزراء من ذوي الاختصاص والخبرة والكفاءة والسيرة الحسنة في خمس وزارات أساسية لها تأثيرها المباشر في ورشة الإصلاحات وهي: الطاقة، الاتصالات، العدل، المال والأشغال (وزارة الوصاية على المرفأ والمطار).
3 ـ «الثنائي الشيعي» مازال عند موقفه الداعي الى الإسراع بتشكيل الحكومة والمستعد لتسهيل الأمور، ولكن طرأ تغيير عند الرئيس بري و«مناخه» السياسي بعد العقوبات الأميركية التي اعتبرها موجهة ضده شخصيا وأثارت لديه غضبا و«إحباطا» في آن، الى حد أنه ألغى كل مواعيده. وتولدت لديه شكوك حيال موقف باريس وما إذا كانت العقوبات الأميركية منسقة معها وكانت على علم مسبق بها ولم تفعل شيئا لتجميدها أو تأجيلها الى ما بعد الحكومة. كما ساور بري شعور انزعاج حيال موقف الرئيس ميشال عون الذي لم يكن في المستوى المطلوب والمنتظر في الرد على العقوبات الأميركية، بحيث جرى التعامل معها كمسألة إدارية تتطلب استيضاحات عبر قنوات رسمية، فيما هي مسألة سياسية تحتاج الى موقف سياسي. وإزاء هذه «النقزة المزدوجة»، بادر بري الى التشدد في موقفه إن لجهة الإصرار على أن تبقى وزارة المال في عهدة وزير شيعي ومن خلفية «ميثاقية» وأهمية «التوقيع الثالث»، أو لجهة الحصول على استيضاحات و«ضمانات» من الفرنسيين الذين أبلغوا أن العقوبات الأميركية لم تكن منسقة معهم ولم يكونوا على علم بالأسماء، وإن كان الأمر متوقعا حدوثه ودفعة العقوبات المعلنة ستتبعها دفعة ثانية، وأنهم مستمرون في خطتهم الإنقاذية على قاعدة الفصل بين مسار العقوبات الأميركية ومسار الخطة الفرنسية.
4 ـ حزب الله متفهم لموقف الرئيس بري ومتعاطف معه في «محنته» الى حد تأييد تمسكه بوزارة المال.. ولكن الحزب في الواقع وفي عمق موقفه يرغب في رؤية حكومة جديدة وله مصلحة في ذلك ولا يضيره أن يقوم الفرنسيون بعملية إصلاح وتنظيف في الداخل، ولا يولي الحزب وزارة المال أهمية ولا يبدي تمسكا بها، وإنما يعتبر أن الوزارات الخدماتية الأساسية مثل الطاقة والاتصالات والأشغال والعدل أهم من الوزارات السيادية، وأن وزارة المال ليست أهم من وزارة الصحة.
5 ـ التعاطي الفرنسي مع وزارة المال يمكن أن يأخذ أحد اتجاهين: إما تطبيق مبدأ المداورة في الوزارات ويُعيّن وزير غير شيعي لوزارة المال يمكن أن يكون على سبيل المثال آلان بيفاني (مدير عام وزارة المالية المستقيل والموجود في باريس)، وإما إبقاء وزارة المال من ضمن الحصة الشيعية مع تعيين شخصية شيعية مستقلة وليست واقعة تحت تأثير مباشر للرئيس بري والوزير السابق «المُعاقب» علي حسن خليل الذي مازال لديه «فريق نافذ» في الوزارة.. وهذه الشخصية يمكن أن تكون على شاكلة وبمواصفات وزير المال أيام الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ناصر السعيدي.
الفرنسيون مصرون على استكمال مبادرتهم الحكومية وخطة الإنقاذ الإصلاحية بعيدا عن «التشويش الأميركي» والدخول المفاجئ على الخط اللبناني.. هم ينصحون بتشكيل سريع للحكومة وبضرورة تقطيع الوقت بأقل الأضرار الممكنة الى ما بعد الانتخابات الأميركية، وهم متمسكون بالمهلة التي حددوها سقفا زمنيا للتأليف وتنتهي في 15 سبتمبر الجاري، ولكنهم مستعدون لتمديد طفيف إذا لزم الأمر ويريدون رؤية الحكومة ضمن المهلة المحددة أو ضمن المهلة الممددة والمعقولة.. المسألة مسألة أيام لا أسابيع.