كتب عدلي صادق في صحيفة “العرب اللندنية”:
أعلنت عناصر عدة، من التيار نفسه الذي يحاول حرف أنظار اللبنانيين، عن موضوع فساد الدولة وسرقة مقدرات الشعب اللبناني، عن استيائها من زيارة إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إلى لبنان، وجعلته ـ بلا منطق ـ موضوعا للتشكي وللإعراب عن مخاوف، بينما هنية نفسه، كان في ذروة يأسه وسط عجز الطبقة السياسية الفلسطينية كلها، لم يفعل في لبنان شيئا سوى محاولة تحقيق بعض الإشباع النفسي البديل، للاجئين الفلسطينيين المتروكين في مخيماتهم بلا أفق في الحياة المعيشة، أو أفق في القضية المسدودة.
تلك العناصر المستاءة، تنطلق من فرضيات أسوأ بكثير، من فرضيات حاسدي هنية من الطيف الفلسطيني الآخر، الذي يمثله رئيس السلطة محمود عباس وفريقه ومندوبوه إلى لبنان. فقد أثار ما حظي به هنية من استقبال في مخيم عين الحلوة، غضب الفريق اللبناني الذي يتطير تاريخيا من الوجود الفلسطيني، ويراه معطوفا على طائفتي المسلمين في البلاد.
وعلى الرغم من ذلك، فإن غضب الفلسطينيين الذين حسدوا هنية على استقباله في “عين الحلوة”، جدير بالتوقف عنده لفحص دوافعهم النفسية. فإن كان الحاسدون اللبنانيون قد اظهروا غضبا لا يبرره في الحقيقة شيء، وإنما هو لمداراة خيباتهم، فإن مجموعة عباس الضيقة المتفردة بالسلطة دون مؤسسات ودون سند قانوني ودون تفويض شعبي، تداري هي الأخرى خيباتها بالمبالغة في إظهار التطير من الاتفاق الإماراتي ـ الإسرائيلي، وكأن مثل هذا الاتفاق ليس جزءا من عملها اليومي خلال أكثر من ثلث قرن مضى.
لم يكن هناك أي منطق أو سبب لأن يستفظع أحد من هؤلاء الاستقبال الذي حظي به هنية. شأن الواحد من هؤلاء، شأن الراسب في الثانوية العامة، أربع مرات، عندما يلعن المدرسة وصعوبة الامتحان وتجربة التعليم كلها، ثم يفتش لنفسه عن أدوار لا يستحقها. لذا فإنه رأى أن ما ناله هنية كثير عليه، وربما هذا لصحيح، لكن الأصح هو أن ما جرى في المخيم الفلسطيني، يعكس حقيقة فائض ضعف السلطة الرسمية الفلسطينية، أو بالأحرى منظمة التحرير، بسبب قلة مروءتها واستنكافها عن أداء واجباتها.
عندما فوجئ الحاسد، بحفاوة المخيم بمن لا يستحق الحفاوة، لم ير أوجب من التفتيش عن مستمع يصغي له وهو يشرح مآخذه على المحسود، علما بأن الأجدر، أن يبادر هو إلى استذكار رزاياه وأسباب عجزه. فتظهير عورات المحسود، لن تجلب حلا لعجز الحاسد ولن تداري عوراته.
وفي الحقيقة، ليست للسلطة الفلسطينية في رام الله، أي مآثر يمكن أن تصل أصداؤها إلى “البيرة” الملاصقة، فكيف يمكن حمل عزام على الأكتاف في “عين الحلوة” وهو بلا مواهب أو مناقب. لذا لا يمكن للمخيم أن يوازن بين الحاسد والمحسود، حتى وإن لم تكن للطرفين، خلال السنوات الماضية، أي وظيفة جوهرية سوى حراسة زمن فلسطيني رديء، يُستدام فيه الانقسام، ويتعمق البؤس الاجتماعي!
على الرغم من ذلك، يظل الفارق بين الحاسد والمحسود، أن الأول لديه هدف حصري وهو إقصاء غزة، بمن فيها الموالون له، وليس بمقدور أحد أن يزعم غير ذلك في معرض الثرثرة للتنصل والتحايل، ثم إن هذا الحاسد، يتبنى خطابا معلنا لا يستحي فيه من تقديس التعاون الأمني مع الاحتلال وإنكار الحقوق السياسية للمجتمع.
مثل هذه الذمم، يستفظعها المناخ الفلسطيني العام في مخيمات لبنان. أما المحسود، فهو يتبنى خطاب المقاومة حتى عندما لا تكون هناك مقاومة، بل عندما يقوم هو نفسه بمنعها وبشجب من يمارسها. لكنه يتبنى هذا الخطاب، لكي يتبدى للبسطاء كراع وكبير سدنة الفعل المقاوم، في أكثر الأوقات حرصا على عدم ممارسة مثل هذا الفعل، وأكثرها ميلا إلى التهدئة مع الرغبة في وصول الوسيط المصري أو الوسيط القطري.
المخيمات الفلسطينية على الأراضي اللبنانية ذات مزاج جنوبي بامتياز حتى لو كان المخيم نفسه في شمالي البلاد كالبداوي ونهر البارد فالصفة الجنوبية هنا ليست جغرافية بقدر ما هي اجتماعية وطبقية
الناس في مخيمات لبنان، لا يركزون على مسألة الحكم ولا يريدون أن يعرفوا كيف يحكم هذا الطرف أو ذاك، في أراضي الحكم الذاتي المحدود والمحاصر. المهم عندهم، هو طبيعة اللغة التي يستخدمها العائمون على سطح السياسة الفلسطينية، وكيفية ظهورهم، وما إذا كانت هناك إمكانية للرهان عليهم لكي تتحسن أحوالهم.
فإن كان عباس نفسه، يحضر هو وأولاده المسابقة الغنائية في بيروت، ويُرى وهو يقبل جبين المطربة أحلام، دون أن يحرص على الوصول إلى مخيم برج البراجنة القريب، لكي يؤسس لوشيجة نفسية بين أهل المخيم ورام الله، أو يتيح لمخاتير المخيم وبعض أطفاله، التقاط الصور معه، فلماذا لا يحمل أهالي عين الحلوة إسماعيل هنية على الأكتاف، عندما يذهب إليهم في منطقة صيدا؟
هنية، ينطبق عليه المثل العربي القديم “أعطِ القوسَ باريها”. فجماعة “الإخوان” أول ما تفعله مع منتسبيها منذ صغرهم، هو بَريْ ألسنتهم، كما تُبرى أقلام الرصاص، لكي يجيدوا الخطابة، ويزلزلوا المخيلات، بأعاصير من الكلام والوعود القصوى وأحاديث المظلومية!
المخيمات الفلسطينية على الأراضي اللبنانية، ذات مزاج جنوبي بامتياز، حتى لو كان المخيم نفسه في شمالي البلاد، كالبداوي ونهر البارد. فالصفة الجنوبية هنا، ليست جغرافية بقدر ما هي اجتماعية وطبقية، موصولة بجنوب العالم قبل جنوب لبنان، وبجنوب الدنيا قبل جنوب فلسطين، وبجنوب جداول الفقر والمعاناة، على مستوى المعمورة.
لكن مناخات الزيارة، أظهرت ما يشبه رقعة الكلمات المتقاطعة، التي تستحث من يحاولون تظهيرها وحل أحجيتها: هنية يلتقي حسن نصرالله حليف الأسد، والأسد يخاصم هنية ويرفض مصالحته، وتركيا وقطر مهوى أفئدة “الإخوان” يغضبهما الاقتراب من أجواء الأسد ونصرالله.
والشيخ حسن يلعب بمهارة لتسليط الضوء على الفارق بين جفاء رموز السنة وحلفائهم المسيحيين، حيال هنية، ووده معه ومع حماس. ويرحب رموز الشيعة بهنية، بينما رموز السنة لا يفعلون، وهنية يزور إسلاميي الجنوب، أصحاب خطاب المقاومة، ولا يزور إسلاميي الشمال أصحاب المظلومية المعلومة منذ الشيخ سعيد شعبان.
ويحاول رموز المارونية السياسية، المحشورون في زاوية الاتهام بالفساد وعدم الجدارة، تحميل زيارة هنية جزءا من المسؤولية عن مأزقهم، لذا استمروا في اسطوانتهم المشروخة يعبرون عن قلقهم من الوجود الفلسطيني.
وفي أجواء هذا كله، لن تكون السياسة خطبة جمعة، ولا شغل مخاتير يتحدثون عن وئام الجميع مع الجميع. فالأطراف في الإقليم، لا تتقبل من مواليها اللعب على حبال أخرى، ولا تقبض كلاما عن حاجة فلسطين إلى الجميع، لأن هذه قاعدة تنكرها هي عندما تتصل بعلاقات فلسطينية مع خصوم لها، وعندما يقول آخرون إنهم في حاجة إلى الجميع.
عموما لن يفلح الحاسد والمحسود، الفلسطينيان، في استعادة وزن القضية الفلسطينية والقيادة الفلسطينية، ما لم ينته الانقسام ويُعاد بناء النظام الوطني على أسس قانونية ودستورية.