كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
أصبح عمره في العالم الآخر، في السماء الرحبة، 38 عاماً، وما زال حلماً لكثير من اللبنانيين. بشير بيار الجميل ما زال صوته يرنّ في الآذان، بأحلى ما تمنيناه، كما سيمفونية رائعة رائدة متقدمة نادرة. ما زال الحلم والأسطورة وومضة الأمل التي نتلمسها “بالشبر والنذور”. في 14 أيلول 2020 نعود إليه، الى خطابه، الى أفكاره وبرنامجه ورؤياه، نعود الى من أحبوه حتى العظام ومن كرهوه حتى النخاع، لنستلهم محطات راسخة متأصلة ثابتة صلبة. نعود إليه ونسأل: هل حبيب الشرتوني هو نفسه سليم عياش: نفس الإنتماء نفس الأسلوب ونفس الثوب والتلوينة والمصير؟
نعم بشير يستمر في 2020 حياً فينا. ولا، (من الآخر) لم يعبر الى سُدة القصر الجمهوري في لبنان الكبير، في ثلاثين عاماً، من هو مثل بشير. راح بشير. لكن ثمة حالة بشيرية تستمرّ. حالة لم يملؤها أحد وإن استثمرها كثيرون. حالة فيها بطولة وعنفوان وسيرة فخامة قائد. فها هو أنطوان نجم، فيلسوف القضية اللبنانية، يجهشُ بالبكاء حين يتذكر بشير يوم اتصل به، عند الساعة الخامسة من فجر ذات سبت، ليقول له: “ممنونك أنطوان خلصتني من الموت”. في تلك الليلة كانا يغوصان في الأفكار والبرامج والرؤى في منزل نجم في الجديدة وتقدمت الساعة وهبّ بشير ليغادر. ألحّ عليه نجم بالقول: “لا تذهب الى بكفيا عبر طريق الفنار بل أسلك طريق انطلياس صعوداً نحو بكفيا”. إستجاب بشير وفجراً سمعا بخبر قتل 4 كتائبيين على طريق الفنار. خلّص أنطوان نجم حياة بشير. وبعد انتخاب بشير رئيساً كان يفترض أن يأتي نجم الى بيت الكتائب في الأشرفية في 14 أيلول، كما كل ثلثاء، غير أن بشير اتصل به قائلاً: لا تأتي اليوم فأنا سأكون موجوداً. ويخبر نجم: “كنت منكباً في ذاك اليوم، في المجلس الحربي، على وضع آخر اللمسات على برنامج بشير الرئاسي ومشروعه التربوي، حين دوى الإنفجار”. يعود الأستاذ نجم ليمسح، بعد مرور 38 عاماً، دموعاً لم تنشف. ويتذكر حين صعد الى بكفيا معزياً، كلام الشيخ بيار: “خلصك بشير يا انطون من الموت”. خلّصه فردّ الجَميل.
معاً، قررا “مسار المقاومة” ووضعا “الخطة العامة” واخترعا كلمة “المقاومة اللبنانية”… يسردُ أنطوان نجم أخباراً كثيرة، كثير منها ليس للنشر إلا بعد رحيله. لكنه لا يتورع بين حين وآخر عن ترداد صفة بعد إسم كان صاحبه مقرباً جداً من الشهيد: “مجرم مجرم مجرم”.
فلننتقل الى فايز قزي. تُرى، ماذا عن بشير في ذاكرته وهو من تعارك وإياه مرات بالعصي؟ وكم يشبه سليم عياش اليوم حبيب الشرتوني أمس؟
تتزاحم الأفكار في رأس قزي وتتفرع، وتذهب الى اليمين وتطال اليسار، ولا تترك أحداً يفرّ. هذا هو فايز قزي الذي قرر أن ينفذ مطهره على الأرض عبر أربعة كتب اعترف فيها وفنّد كل ما يراه، وها هو كتابه الخامس “حارس قبر الجمهورية” آت وفي نهايته اعتراف: “أكون اليوم قد محوتُ بالحبر عني كل آثامي”.
قزي ينظر الى الوراء، الى اغتيال بشير، ويعود وينظر الى اغتيال رفيق الحريري، ويعود ويتوقف عند تاريخي 20 تشرين الاول 2017، يوم صدور حكم القضاء اللبناني باغتيال بشير، وتاريخ 18 آب 2020 يوم إصدار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حكمها بقضية اغتيال رفيق الحريري ويقول: “الفاعل واحد والمخطط واحد والقاتل واحد. من قتل بشير يقتل لبنان. هو نفس القاتل لكن غيّر ملابسه. مرات يغيّر رأيه أما عقيدته فلا تتغير. من قتل بشير والمفتي خالد وكمال جنبلاط ورينيه معوض ورفيق الحريري ومن فجّر بيروت هو نفسه. التلوينة تتغير لكن السيناريو يتتابع واليوم هناك ثلاثة رؤوس تتنافس على القتل والإغتيال: الفارسي، العثماني، والصهيوني. ويستطرد: السوري بضاعة محلية. والتيارات الأساسية تُسخّر السوري”.
فلنعد الى بشير، عن عدائه له ثم عن قبوله، فهل بشير تغيّر أم قزي هو من تغيّر؟ يجيب: “اصطدمتُ مع بشير في الجامعات، تعاركنا بالعصي، ولاحقاً، خلال الحرب، تعاملتُ معه كخصم، ذهبتُ لأفاوضه باسم أبو عمار على تسليم تل الزعتر للقوات اللبنانية بلا قتال، وهناك التقيتُ كاهناً من آل حايك، صديق كمال جنبلاط، أتى حاملاً لائحة من ستين نقطة. دخلنا معاً لملاقاة بشير. وهنا كان الحوار الأول مع من تعاركت معه أيام زمان. رأيت بشيراً آخر، يتكلم مثلي، سمعته يقول للأب حايك: أنا موافق على النقاط الستين وسأضيف إليها بنوداً أكثر تقدمية وعدالة ولكن، ليسمح لي كمال بك، فهو أرسلك أنت الكاهن المسيحي، وأبو عمار أرسل أيضاً مسيحياً هو فايز. فلماذا تقبلان أن يستعملانكما؟ يستطرد قزي بالقول: ذهبت الى أبو عمار فوافق على طرح بشير أما كمال جنبلاط فرفض ذلك من منطلق أن الكتائب ربما لن يوافقوا على الشروط فيُعدّ هذا هزيمة للإشتراكيين إذا أرسلوا له اشتراكياً وقال: فليوافقوا على الشروط ثم نذهب”.
ناضل فايز قزي من أجل منع وصول بشير الجميل الى رئاسة الجمهورية، ويشرح: “لم أقتنع في تلك اللحظة ببشير الجميل لأنني كنت مع الطرف الذي يحمل قناع الحرية والتقدمية والبعث والريادة. كنت أعتبر أن خياري هو البديل لهذا الكيان المسيحي المتمثل في تلك اللحظة ببشير الذي اعتقدت أنه سيأتي ليُخربط لا ليُصلح. كنت أعتقد أنني باعتراضي على بشير أحمي مشروعي العلماني”.
هل يتذكر فايز قزي لحظة قُتل فيها بشير؟
يخبر قزي أنه كان في باريس، يشرب قهوته مع شخصين آخرين احدهما خزعل الجميل، فأتى صوبهم ضابط في الجيش اللبناني كان هناك وأخبرهم: قتل بشير الجميل. سأله أحدهم: كيف مات؟ بانفجار؟ فردّ عليه خزعل: وهل تعتقد أنه سيُقتل “بالتشي شي”؟ في كل حال، أعترف أنني، في تلك اللحظة، لم أحزن.
أربعة عقود إلا عامين مرت فهل ما زال تفكير قزي حول ظاهرة بشير نفسه؟
ما تبدل لدى الكاتب السياسي “الذي يعيش مطهره، عبر اعترافاته، على الأرض” على ما قال “هو أن الأزمة ليست في فكر بشير الجميل بقدر ما سببها هو انغلاق الفريق الآخر على أي انفتاح على الأقليات المسيحية. فقد كنت في السابق أحمّل المسيحيين “الإنعزاليين” مسؤولية الإنغلاق واكتشفت لاحقاً أنا المسيحي المنفتح على التجربة العلمانية العربية القومية، الذي ناضلت وسجنت وحاربت “الكتائب” و”القوات اللبنانية”، أن الإستحالة ليست في العضو المسيحي بل في كل الجسم، ونحن نعلم أنه حين يُزرع عضو في الجسم إما يتقبله أو يرفضه، وتحول لبنان الى دولة حديثة يفترض أن يكون بتفاعل كل الأعضاء والكيانات”.
نعود الى الأستاذ أنطوان نجم…
10452 كيلومتراً… يُردد أنطوان نجم هذه المساحة التي أصبحت مساحة لبنان مستذكراً: كنا في اجتماع فسأل بشير: كم مساحة لبنان؟ فأجيب عليه بتكهنات كثيرة فردّ: فلنقل 10452 كيلومتراً. وما قاله أصبح يتردد حتى في كتب التاريخ والجغرافيا.
ماذا عن خطاب بشير؟ ماذا عن بشير الإنسان المتجسد حتى اللحظة في خطاب لامس القلوب والعقول والأحلام؟
يجيب أنطوان نجم بحماسة “لا أعتبر أن تلامذة أي مفكر في العالم فهموه مئة في المئة ولولا الروح القدس لما فهم تلامذة المسيح حتى المسيح”!
الفكر السياسي، فكر بشير، كان قبله واشتد معه وصمد بعده وسيستمر الى أبد الآبدين. كان بشير ظاهرة دينامية نادرة في عقله السياسي وفي قدرته على مواكبة التغيير. كان يستوعب الأحداث ويواكبها ويتصرف بموجبها. كان نظيفاً متحركاً واكتسب ثقافة سياسية كبيرة لأنه اشتغل على نفسه. كان قادراً أن يلتقط الإشارات، مثل الرادار، وأن يقرأ في التجارب السياسية. كان يحلم و”يطحش” ويتمتع بكل المؤهلات التي كانت ستجعل منه، لو عاش، شخصية شرق أوسطية بامتياز. شخصية بشير كانت أوسع من لبنان ومشروعه أكبر من لبنان. أراد بشير في اختصار أن يفصل لبنان عن أزمة الشرق الأوسط ووضعه على خط الهدنة مع إسرائيل وبناء دولة حقيقية وجيش قوي وهذا ما كلفه طبعاً حياته. كان بشير يريد وزراء لا يتباهون بارتداء “بيار كاردان” بل بأعمالهم.
ويوم رشح بشير نفسه الى موقع رئاسة الجمهورية اللبنانية سأله نهاد المشنوق (الصحافي آنذاك) في حوار مع النهار العربي والدولي: ما هو مشروعك؟ أجاب: مرشح الإنقاذ أو الرئيس المنقذ. عاد وسأله المشنوق: وما هو برنامج هذا المرشح المنقذ؟ أجاب بشير: عملية الإنقاذ شيء متكامل من وحي نظرة جديدة للأمور أكثر مسؤولية وأكثر جدية في العمل، وأكثر تحسساً بالواقع اليومي والمشاكل الإجتماعية والسياسية والأمنية. والإنقاذ يكون برفض التقسيم ورفض التوطين وإقامة نظام ديموقراطي. وصيغة التعايش يجب أن تأتي نتيجة الحوار بين جميع الأطراف فنناقش ونجادل حتى نصل الى مصلحة لبنان. في رأيي، أضاف بشير، أن الأحزاب العقائدية وجميع المضطهدين يعبّرون عن عقيدة خلاصهم في حكم ديموقراطي حر ومنظم على قاعدة المساواة. لبنان لا يسير بانقلاب عسكري. لغة السلاح في لبنان ليست طريق الحكم.
بشير الجميل كان واضحاً مثل الشمس لهذا أحبه حتى كثيرون ممن كرهوه. وهو من قال: لا نريد وطناً قومياً مسيحياً بل وطناً للمسيحيين ولسوانا إذا أرادوا، ولكننا نريده، على وجه التأكيد، وطناً لنا. وطن نعيد فيه بناء الكنائس ودق الأجراس.
وأطلق الرئيس الشاب شعارات وتحذيرات لا تزال تتردد في الأذهان حتى اليوم منطقها منطق الدولة القوية التي لا تساوم على كرامتها ولا على سيادتها، والجيش القوي الذي يفترض أن يناهز عديده مئة وخمسين ألف جندي بكامل عتادهم وأحدث تجهيزاتهم. ولم ولن ينسى اللبنانيون ما قاله في اليوم السابع عشر، من أيام الحلم، وفيه: سنبني دولة سنة الألفين ولن نرمم ما تبقى من دولة 1943. وتابع: دفع لبنان مئة ألف قتيل وحل بنا ما حل لأننا لم نعرف أن نحافظ على الحقيقة التي كانت في أغلب الأحيان تخيفنا. كنا دائماً نموّه الحقيقة ونجمّلها لكن داخلها بقي متّسخاً ومهترئاً يتفاعل ويتآكل ويهدّ الجسم… أتيت أطلب منكم أن تقولوا الحقيقة… أتيت أقول لكم إن البناء انهار في أرضنا لأن كل شيء كان طلاء وغشاً وكذباً. وقال أيضاً بين ما قال: الدولة لم تعد تستطيع تحمل كل فاشل في مهنته وحياته. والإدارة بين يدي الحكم كالإزميل بين يدي النحات.
رحل بشير لكنه حيّ. هو حيّ أكثر من كثيرين يتنفسون. وما زال هناك، في السنة 2020، من يموهون الحقيقة والإزميل يستمر ضائعاً!