تقرب ساعة الحسم في ما خصَّ المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس ايمانويل ماكرون، لوقف انهيار الوضع في لبنان، او اختفاء هذا البلد عن الخارطة السياسية الدولية، بعد مرور قرن كامل على ولادة لبنان الكبير، في اعلان المفوض السامي هنري غورو: الحسم هو في تعيين المسار الذي ستسلكه الأحداث، في ضوء احتمال من اثنين: اعلان حكومة الرئيس مصطفى اديب، او اعتذار الرجل، معيداً «امانة التكليف والتأليف معاً»، الى ملف اودعه، تشريفاً وليس تكليفاً، ان يضطلع بمهمة محددة، اعادة اصلاح الوضع المالي والنقدي في هذا البلد المنهك، الواقف على شفير الانهيار، كمصلحة فرنسية قومية عليا، ليس من باب «التوستالجيا» التاريخية، بل من باب خط الدفاع الاول عن مصالح واحدة من اكبر الامبراطوريات، ذات الحضور الاستعماري والانتدابي، في بلدان عدة من آسيا وافريقيا، وصولاً الى الكيبك الكندية.
تلك المصالح التي تكمن بالحؤول دون هيمنة «العثمانية الجديدة» ممثلة برجب طيب اردوغان على المياه الدافئة، والحلوة، وحركة السفن شرق المتوسط.
الثابت ان الرئيس المكلف يدرك تماماً مهمته، وهو يتابع، سواء مع الفريق اللبناني الذي سماه، او الفريق الفرنسي المكلّف العمل اليومي، لتحديد مسار المبادرة، والحؤول دون سقوطها، وابلاغ من يعنيه الامر «الكلفة الباهظة» المترتبة على هذا السقوط، سواء في ما خصَّ فرنسا ماكرون، او «دولة العيش المشترك» والكيان الواحد الكبير من جبل حرمون ورأس الناقورة الى النهر الكبير..
لم يخفِ رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، في كلامه الاحد، من انه يتخوف على «المبادرة الفرنسية» التي يحرص عليها هو، ويعلم «بوجود جهات داخلية وخارجية تريد افشالها».
على وجه الدقة، لم يكشف الرجل، الذي ضاقت به التطورات، ويلعب الآن على حافة القرارات الخطيرة، من هي الجهات الداخلية: هل يقصد بها حلفاءه في «الثنائي الشيعي»؟ أم يقصد بهم «القوات اللبنانية» التي وقع معها قبل سنوات تفاهماً، انتهى الى ايصال مؤسس التيار الوطني الحر العماد ميشال عون الى سدّة الرئاسة الاولى؟ أم يقصد به تيار «المستقبل»، الذي بادر رئيسه سعد الحريري من ضمن مؤسسة مستجدة هي «رؤساء الحكومات السابقين» التي تضع «فيتو» على الرئيس المصرّف للاعمال حسان دياب بدخولها، الى تسمية اديب، او على اقل احتمال، قبول اسمه لهذه «المهمة المعقدة» من زاوية التقييم الدولي للايام 12 التي مرت على صدور مرسوم تكليفه من قصر بعبدا، أم يقصد باسيل حلفاء «اردوغان» في الداخل اللبناني، وهم على قلتهم او بعثرتهم معروفون.
في سياق المواقف التي اعلنها باسيل، يتبيّن انه يعترض على المقاربة التأليفية، للرئيس اديب، غامزاً من قناة حليفه تيار «المستقبل»، من خلال تساؤله: لماذا الاصرار على تأليف حكومة من قبل فريق واحد، ومن دون تشاور مع احد، تحت عنوان الاختصاص وعدم الولاء الحزبي والاستقواء بالخارج؟
ولا يقف الامر عند هذا الحد، بل هو ينتقد ما يسميه «رشاقة وزارية».. إذ- حسب رأيه – الحكومة المصغرة هي «وصفة فشل» وليست رشاقة «لأنه بالكاد» يقدر الوزير ان يلحّق على وزارة فكيف بوزارتين»؟ معتبرا ان مثال حكومة حسان دياب اكبر برهان..
هنا، يصحّ السؤال: اين يتفق فريق باسيل، او فريق بعبدا، مع نادي «رؤساء الحكومات السابقين» ممثلاً بالرئيس المكلف؟
فقط، على ما يبدو، على المبادرة الفرنسية، التي هي الورقة الاخيرة، او حبل النجاة الوحيد امام لبنان، لعدم السقوط بالمحظور او الانهيار الكبير: في المالية، والاسعار والدولار، وفقدان السلع والأدوية والخبز والمحروقات، وكل عناصر الحركة والحياة؟
لولا الحذر الشديد من الغضب الفرنسي، لكان باسيل، قال: بعبارة صريحة: لن نمشي وفقا لخيارات الرئيس المكلف.. إذ أن «هناك من يريد الحصول على ما يريد، وإما ان تفشل المبادرة الفرنسية!».
خارج الاسماء والحقائب، المشكلة، على خلاف، ما يقدمها باسيل وفريق 8 آذار: المشكلة ان المبادرة الفرنسية المدعومة في شقها الاصلاحي اميركياً، ضمن حذر روسي، وصمت مريب، وتأييد بلا حدود من الاتحاد الاوروبي، لا سيما ألمانيا ميركل، وبريطانيا جونسون، اللذين يدعمان ماكرون، من ضمن الشراكة في مواجهة الفيتو «الأردوغاني» قبالة الشواطئ الغربية للمتوسط، بعد ثبات العلاقة مع «النمر الروسي» فلادمير بوتين، الذي ترتب الولايات المتحدة بسائر المشكلات الدموية في العالم، بالوقوف على خاطره، مرة، وتجاهله مرات، تاركة له اللعب، على ارض سوريا «لإبعاد الايرانيين وحلفائهم من ميليشليات مقاتلة ومسلحة الى جانب النظام، الذي بدا انه الحلقة الاضعف في «محور المقاومة».
في لعبة «حرب الشواطئ» والبواخر على مرأى ومسمع «التسويات الكبرى»، التي يطمح دونالد ترامب لأن تشكل له الدافعة الانتخابية للبقاء ولاية جديدة في «البيت الابيض»، تواجه «الطوائف اللبنانية» الموقف المستجد على طريقة «الحيص بيص»،فهي محشورة في التسليم بالمبادرة الفرنسية، والبقاء ضمن العباءة الفرنسية، في زمن الحاجة الى مظلات دول كبرى، وهو زمن انتقالي، على صعيد اكبر ازمات العالم، وتثبيت النفوذ الاميركي في آسيا الإسلامية، للحد من النفوذ الروسي، والصيني في تلك المنطقة، فضلا عن التركي والايراني.
ولكن في الوقت نفسه، لا يبلع ممثلو الموارنة على مستوى رئاسة الجمهورية، وممثلو الشيعة على مستوى رئاسة المجلس النيابي، ان يتصرّف تيار «المستقبل» (وهو يستعيد الرئاسة الثالثة) بسائر المقدرات، مستفيداً من عناصر عدة ابرزها: انهيار تجربة الحكومة التي ألفها حسان دياب، وقوة المبادرة الفرنسية، وتحميل المجتمع الدولي، والتظاهرات الشعبية الطبقة السياسية، مسؤولية الانهيار على مستوى مؤسسات الدولة الخدماتية والمالية والنقدية، فضلا الى تلاشي سلطة الدولة ومؤسساتها على نحو بالغ الخطورة..
مشكلة السلطة الرسمية لتحالف موارنة بعبدا وباسيل والمسيحيين الملتحقين بهما مع ثنائي «امل»- حزب الله، هي ان الشريك الثالث «السنيَّة الرسمية» ليست هي الآن في الواجهة أو المواجهة، بل ماكرون ومن ورائه اوروبا، وبعض من الولايات المتحدة الاميركية، في الوقت الانتخابي الميت، في اميركا،وعليه النقاش الدائر، على الرغم من حركة الاتصالات لانقاذ الموقف، مَن يتحمل تبعات تعثر او فشل مبادرة ماكرون، على المستوى الداخلي (عقوبات، سحب امتيازات، فيتوات، إلخ..)، هل «حزب الله» المعوَّم بالمبادرة، ام نبيه بري رئيس حركة «امل» و«وبطانته القريبة» بتهم «الفساد وما يلحق به» أم التيار الوطني الحر، الذي لا يمكن ان يكون «شرقياً» أو صينياً، او حتى روسياً، بل هو فرنسي «الهوى والانتماء..».
كلّ يحيل الأزمة الى ملعب غيره، لكن مبادرة ماكرون، تستبعد «امل» وباسيل، من وزارتين علىالاقل، المال والطاقة، والباقي «تفاصيل هوليودية»!