كتب محمد خالد ملص في صحيفة “الأخبار”:
عاشت طرابلس ثمانية ايام من القلق على عدد من أبنائها ممن غادروا الى قبرص عبر البحر. انقطع التواصل مع هؤلاء إلى أن عثرت عليهم القوات البحرية في الجيش بالتعاون مع قوات اليونيفيل وهم في حال مزرية، بعدما قضى بعضهم غرقاً وجوعاً
قبل سبع سنوات، غادر مركب كبير شاطئ طرابلس حاملاً على متنه مهاجرين نحو بلاد الله الواسعة. يومها، استقلّت عائلات بأكملها المركب المتهالك، غير آبهين بمخاطر البحر. جلّ ما كان يهمّهم الخروج من «أرض البخور والعسل» الى أي بلد آخر يتدبّرون فيها لقمة عيشهم. باعوا كل ما كانوا يملكونه في قراهم وركبوا البحر… لكن سرعان ما عاد أكثر من 50 منهم في التوابيت إلى أحيائهم وقراهم الفقيرة في طرابلس وعكار والمنية.
بعدها، لم ينقطع أبناء تلك المناطق عن السفر في عرض البحر. يكاد لا يمر أسبوع من دون أن يغادر مركب يحمل حالمين بالهجرة شواطئ العبدة والمنية وطرابلس، في رحلات تنظّمها مافيا تهريب تنشط بكثافة في معظم مناطق الشمال في اتجاه قبرص وتركيا واليونان، كمحطات عبور الى دول وبلدان أخرى. وفي كل مرّة، تحمل المراكب فقراء لا يصلون إلى مقاصدهم في أغلب الأحيان، وتتأرجح مصائرهم بين الموت غرقاً أو اعتقال خفر السواحل لمن يصل منهم الى بعض الشواطئ قبل إجبارهم على العودة من حيث أتوا… فيما قلة قليلة تنجح في تحقيق «الحلم». كل أسبوع، ثمة رحلة نحو المجهول، ليس آخرها المركب الذي حمل نحو 50 راكباً قبل ثمانية أيامٍ، والذي عثرت عليه البحرية اللبنانية، بالتعاون مع قوات اليونيفيل، أول من أمس، في منتصف الطريق بين لبنان وقبرص.
في الرحلة الأخيرة، كان المهاجرون لبنانيين (في غالبيّتهم من منطقة القبة في طرابلس) وسوريين، وكانت الوجهة قبرص، بعد الاتفاق مع ن. المحمد على تأمين العبّارة التي ستقلهم. مساء الاثنين الماضي، اليوم المقرر للانطلاق، حزم هؤلاء أمتعتهم وتوجهوا نحو شاطئ المنية. إلا أنهم لم ينطلقوا في الموعد المحدد، إذ أبقاهم الرجل في أحد المنازل ليومين، بحجة عدم جهوز المركب. في ما بعد، عرفوا أن فترة الانتظار تلك كانت «لتدبير ركّاب آخرين»، على ما يقول أحد العائدين لـ«الأخبار». بعد يومين، انطلقت العبّارة بـ 50 شخصاً، بينهم أطفال ونساء في مركب لا يتّسع لأكثر من 25 شخصاً فقط. وقد دفع كل منهم لسماسرة الموت سبعة ملايين ليرة، أي ما مجموعه 350 مليون ليرة.
قبض صاحب المركب 350 مليون ليرة من الركاب وتركهم في عرض البحر
ولأن الحمولة زادت، منع المحمد «المسافرين» من حمل أمتعتهم، بما فيها الطعام وحليب الأطفال، طالباً منهم وضعها «في مركب ثانٍ سيسير إلى جانبهم». بعد انطلاق المركب، اختفى المحمد والمركب المرافق. ركب المهاجرون البحر وحدهم، بلا مرشد، وانقطع الاتصال معهم. ورغم محاولات أهاليهم التواصل مع الجانب القبرصي، عبر بعض الوسطاء، إلا أنهم لم يوفّقوا بالوصول إليهم. إذ جاء الجواب من قبرص بأن «الأسماء التي قدّمت غبر موجودة لديهم».
ثمانية أيامٍ في عرض البحر عاشها المهاجرون من دون طعام وشراب، وكانت حصيلتها موت 14 منهم، بينهم ثلاثة شبان فُقد أثرهم بعدما قرروا العودة سباحة، إضافة الى طفلين ماتا جوعاً ولم يقبل ذووهما برميهما في البحر، فعمدوا إلى ربط جثتيهما بالمركب! أما البقية ممن حالفهم الحظ، فقد عاشوا لحظاتٍ أسوأ من تلك التي خبروها في ذلّ البلاد، فقد «عانينا من الجوع الشديد، والعطش الشديد تحت شمس لاهبة، واضطررنا الى شرب مياه البحر».
مات من مات، وعاد آخرون إلى البلاد التي هربوا منها، وإن كانوا سيجربون تلك الرحلة «مرة أخرى»، على ما يقولون. فالموت في البحر، بالنسبة إليهم، أهون مما يعيشونه. مع ذلك، لا أحد يأبه لما يعانيه هؤلاء من فقراء قرى الأطراف، إلا من يشبهونهم. فرغم الأموات الذين يحصدهم البحر، وآخرهم الضحايا الـ 14، لم يتحرك أحد من الدولة. انتهت القصة بقطع عدد من أهالي القبة الطرابلسية ومنطقة البيرة العكارية عدداً من الطرقات احتجاجاً، ثم أعادت القوى الأمنية فتحها بالقوة، وكأن شيئاً لم يكن… في انتظار رحلة أخرى.