كتب عمّار نعمة في “اللواء”:
شكل إرجاء رئيس الحكومة المكلف مصطفى أديب تفجير قنبلته الإعتذارية أمس في بعبدا، فرصة لالتقاط الأنفاس ينتظرها الجميع على أمل إنقاذ المبادرة الفرنسية التي ترنحت على وقع مطبات داخلية وأخرى تتعلق بعدم دراية فرنسية كافية بالوضع اللبناني.
والحال أن العقبات التي إعترت مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون الذي إحتضن تلك المبادرة وتبناها كإبنته، كانت بمثابة لغم مزروع في ثناياها ليصبح تفجيرها مسألة وقت فقط!
ثمة أسئلة كثيرة ومتعددة حول ما اذا كانت ثمة نية لدى البعض بإفشال أديب، أو أن ما يحصل هو صراع على السلطة لم يأبه للمأساة التي يعيشها لبنان الذي يهرب أبناؤه في قوارب الموت نجاةً من المنظومة الحاكمة التي لم تتعظ حتى من إنفجار المرفأ الذي لا يفصلنا عنه سوى أسابيع!
تسرُّع باريس؟
لعلها عوامل عدة تضافرت لإفشال مهمة أديب، حتى الساعة.
وبينما ينقل مقربون من الدوائر الفرنسية إقراراً منها بتسرع حصل في المبادرة، وليس في إطلاقها أساساً، فإن الامر يتعلق بأكثر من عامل.
والحال أن ماكرون حضر على عجل مع إنفجار المرفأ، ثم أعاد الكرّة أواخر الشهر الماضي، وحدد الأطر العامة للحل التسوية، إستبعد ما يمكن أن يشكل عنوانا للتفجير الداخلي وخاصة على صعيد العلاقة مع «حزب الله» ما جلب عليه انتقادات لتحييده مسألة السلاح ما يعتبره البعض المعضلة الاساس في البلاد.
وضع الرئيس الفرنسي مهلة قصيرة لتشكيل «حكومة مهمة»، وهي في الواقع «حكومة مهمة سياسية إقتصادية» لتمرير المرحلة عبر أضاء فضل أن لا يتجاوزوا 14 عضوا، ودعا الى مداورة في الحقائب شكلت عامل التفجير الكبير لعملية التشكيل.
في الدوائر الفرنسية من يلفت النظر الى أهمية المؤتمر الاقتصادي الدولي الذي يُراد عقده لصالح لبنان الشهر المقبل، لكن هؤلاء يؤكدون أن مفتاح المؤتمر الذي سيشكل فاتحة الاصلاحات والمساعدات، هو تشكيل الحكومة اللبنانية الاصلاحية التي سيقع على عاتقها الانطلاق لكتابة تاريخ جديد للبلاد.
يؤكد المتابعون للموقف الفرنسي أن ماكرون لن يستسلم امام العثرات الحالية، فقد اتخذ القرار لمساعدة لبنان والانخراط بقوة فيه، وهذا طبعا يتعلق بسياسة باريس في المنطقة ومن أركان هذه السياسة مواجهة التغلغل التركي فيها بعد أن وصل الى مشارف فرنسا نفسها كما في ليبيا، قبل أن يتم لجمه.
هي إذاً سياسة فرنسية مخطط لها بعناية، يعيبها عدم الخبرة في الشأن اللبناني الداخلي، وقلة الدراية هذه لعلها تمثلت أساسا في موضوع مداورة الحقائب، علما أن هناك في تلك الدوائر من يردد طويلا أن باريس ليست معنية بالتدوير الطائفي للحقائب وبالتفاصيل الحكومية التي أشعلت مساعي أديب وقد تطفىء محركاتها.
إمتعاض عون من أديب وزعيم «المستقبل»
وقد يكون مفتاح إعادة الدفع لتلك المبادرة مراعاة الطرف الشيعي على صعيد وزارة المالية، مرحليا حتى يعزز الفرنسي من نفوذه في لبنان ويتضح مجرى السياسة الاميركية بعد انتخابات الثالث من تشرين الثاني المقبل. هذا مع العلم أن مع تعداد من تعاقب على وزارة المالية منذ إتفاق الطائف حتى اليوم، يبدو واضحا أن هذا الموقع لم يكن حكرا على الطائفة الشيعية التي تطالب به أو حتى أية طائفة أخرى، ولم يقتصر الحضور الشيعي فيه خلال أعوام سبعة من أصل 30 عاماً، خلال كل الحكومات الـ 18 التي تعاقبت منذ العام 1990 حتى حكومة الرئيس حسان دياب عبر ستة وزراء شيعة، بينما تسلم تلك الوزارة بعض من كان يصنف في فئة الصقور في مواجهة محور «الممانعة».
في كل الأحوال، تسلم أديب المهمة الشائكة واضعا أسس الحكومة العتيدة التي لا يفترض أن ينخرط فيها السياسيون. وفهم الجانب الشيعي أن أديب، الذي لم يطلب لقاء بري أو الكتل النيابية، جاء متسلحا بالضغط الخارجي وبـ«فوقية» صنفها الثنائي بالانقلاب عليه. وهو ما دفعه الى وضع أسس مُقابلة للسائد عبر تسمية وزرائه وعدم شمول المداورة الوزارية للمالية، علما أن لا امكانية لتسلم الثنائي للوزارات السيادية الاخرى كالدفاع والخارجية والداخلية لأسباب موضوعية داخلية وخارجية تتعلق بطبيعة تلك الوزارات ومهامها.
وبغض النظر عن وجهتي نظر حول مسألة المالية تقوم إحداهما على نفي ايلائها الى الطائفة الشيعية، وتعتبر الاخرى أنه تم التداول في هذا الامر من دون إسناده رسميا، فإن صمت أديب وزيارة الرئيس سعد الحريري لرئيس مجلس النواب نبيه بري، بدلاً عن أديب، لإبلاغه بمسار الأمور، وضعا أسس الهجوم المضاد من قبل الثنائي ما أفشل مسعى أديب في مرحلته الاولى، حتى أن مصادر متابعة تحدثت عن رسالة «تنبيهية» وصلت الى الرئيس المكلف ومحيطه لناحية تداعيات تشكيل حكومة من دون المكون الشيعي.
وتشير بعض الأوساط المحيطة بالحريري، الى أنه قام بمسعاه الأخير في عين التينة متسلحا بدعم فرنسي وقبول أميركي سعودي، يبدو زعيم «تيار المستقبل» في أمس الحاجة لها وهو شرع في مواقف تصعيدية كان آخرها تغريدته أمس التي تشدد فيها في موضوع وزارة المال والتي تردد أن أحد المخارج لها قد يكون تسمية بري خمسة أسماء على أن يختار الرئيس المكلف منها..
على أن المآخذ على أديب لا تتعلق فقط بموضوع وزارة المال، بل أن الانتقادات له كانت لاذعة في أوساط رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، خاصة لناحية تجاهلهما من قبل أديب و«فرضه» للأسماء الوزارية.
وثمة من ينقل عن زوار رئيس الجمهورية إعلانه رفض إيلاء المالية الى الثنائي وتكريس التوقيع الثالث، وهو ما يشير إليه هؤلاء الزوار بوصفه تباينا بين فريق العهد والثنائي مع تسجيل إنتقاد العهد لموقف الحريري في تغريدته «المالية» التي يرى أنها جاءت لتؤزم الأمور.
في كل الأحوال، هناك من المطلعين على بواطن الأمور من يردد بأن الأمور تبدو بالغة التعقيد نتيجة تشابك العثرات الداخلية مع كباش إقليمي دولي ايراني أميركي لا يُسهل عملية التشكيل. لكن في المقابل، لا يود ماكرون تلويث رصيده الشخصي ناهيك عن سمعة وصورة فرنسا التي لن تنتهي مبادرتها اللبنانية مهما كان مصير مساعيها الحكومية الآنية.