كتبت ماري الأشقر في “الجمهورية”:
القلق خبز يومي يطرد التركيز ويقلّص القدرة الذهنية. والمثل الصيني يقول: «يقيس قيمة الناس الكبار بمقدار ما يحتفظون في كيانهم بطفولة، مهما بلغت بهم الاعمار والمقامات». والطفولة باتت محاطة بالخراب والدمار. فما ذنب الطفولة في لبنان؟
ما ذنب تلك البرعمة العطرة في رياض لبنان حتى يخفقها العوسج؟ ما ذنب الملائكة الصغار تنتهشها انياب الذئاب قبل ان تبلغ سن الفطام؟ شبّ رعباً الطفل، تغذّى بلبن الرعب حبّاً فوق ارض الانفجارات! التلميذ الصغير تغيّر قاموسه حتى بات يخلط بين اوتوكار المدرسة وبين دفتر الخرطوش ولوح الحساب وتلة الرصاصات الفارغة! لم يعد تركيزه وارداً في الصباح على تمشيط شعره، لأنّ اخبار تمشيط المناطق بالنار احتلت كل المطارح، لم يعد التلميذ يميّز بين رائحة الزهور الصباحية ورائحة البارود التي تزكّم أنفه صباحاً ومساءً. لا شك في أنّ العنف يترك آثاراً كبيرة على نفسية الطفل، والعنف الذي يلمسه التلميذ في محيطه يولّد لديه الخوف من الحاضر والمستقبل.
حتى نتمكن من تخطّي كل هذه المشكلات، على الأم تدريبه على الوعي والخير بصورة متلاحقة ومتابعة، لمحوها من الاساس.
نفهم انّ بعض الاهل غير مطلعين على مبادئ علم النفس، لهذا يقفون حيارى أمام ما يجب ان يفعلوه. لكن قبل كل شيء، ينبغي الإقلاع عن التعامل مع طفل الحرب من خلال الذهنية القديمة. فهناك مبدأ سيكولوجي اصبح بديهياً، اذ انّ السنين الاولى من حياة الطفل هي الأهم بالنسبة الى التطوّر النفسي وبناء الشخصية السليمة. انّها السنوات الخمس الاولى وبخاصة السنتان الاولتان، ولتوعية التربية المتمثلة في العلاقات العاطفية مع الطفل الاهمية القصوى، إن في ايجابياتها او في سلبياتها. فكثير من الاطفال فقدوا امهاتهم، والخطر يكمن في ترك الطفل عند غياب امه، مع بديل غير مناسب. فقبل عمر 3 سنوات يحتاج الطفل الى رعاية مستمرة، واذا توفيت الأم فلا بدّ من بديلة تتمتع بصفات الأمومة (الجدة أو المربية…) للاهتمام بالطفل بصفات الامومة الحق: المحبة الصادقة، تأمين الشعور بالطمأنينة مع تدريبه بشتى الوسائل للاعتماد على نفسه، أي «فطامه» السيكولوجي بشكل تدريجي. فالتربية ككلّ، تتمثّل في هذه الفترة بمبدأين اساسيين: أولاً إعطاء الطفل القدر الكافي من المحبة والحنان، حتى تكون ثقته بنفسه وبالعالم ثقة متينة غير قابلة للانهيار امام كل عقبة تعترضه.
ثانياً: توفير المجالات للطفل كي يقوم باختبارات ويحقق خبرات شخصية تقوده الى الاعتماد التدريجي على النفس، فنفسيات الاطفال تغيّرت في الزمن الحالي (أولاد عنيدون، عصبيون) والولد اليوم لا يُعامل بالقسوة بل باللين وبطرق معيّنة مع مراقبة عاداته وتصرّفاته، ومساعدته في الاقلاع عنها. يجب ألّا يُترك الولد على هواه، المطلوب ان يُراقب بدقّة وعناية (في البيت والمدرسة والشارع).
فيتمّ تدريبه وترويضه ثم تحضيره لدخول المجتمع. فيجب ألّا ننسى انّه رجل الغد، تأثر اليوم بشكل مباشر التلميذ وقدرته الذهنية انحسرت بسبب القلق، فلم يعد قادراً على التركيز. فكيف نريد منه أن يطرد الخوف من حياته والخوف أصبح خبزنا اليومي! حبّذا لو تندثر الحرب نهائياً في العالم، عسى ان نتمكّن من نزع الخوف من مخيلة الطفل. إن ما يعانيه من جراح، من ألم، من تشرّد، من جوع، من مرض، من ضياع، من حرمان، فيا ربّ أبعده عن كل انسان. كان للتلميذ في الماضي حرّية التصرف دون خوف، أما اليوم فقد أصبح رهينة الضياع.
نتمنى أن ينال شهادات الجهد والصدق لا شهادات مزوّرة، ومدارس بكل ما للكلمة من معنى لا سوبرماركت للأطفال. علينا أن نجد المرتع المناسب لتربية صالحة وتوجيه خيّر. علينا ان نتحدّى القساوة والمستحيلات والكوارث برباطة جأش وإرادة حاسمة.
نريد الخير، والخير وحده. وهناك حالات مستعصية تحتاج الى اطباء في علم النفس. فما ينفع اللبناني لو ربح العالم وخسر الطفولة في لبنان؟