«شدُّ أحزمة»… هكذا بدا المشهدُ في بيروت أمس مع تَرَنُّح المبادرة الفرنسية على حافةِ الخمس دقائق الأخيرة من «الوقت الإضافي» الذي أُعطي لها مبدئياً حتى اليوم، ودخولها عنق الزجاجة المحشوّة بـ «بارود» الوقائع اللبنانية ورمالها المتحركة والصفائح الساخنة في المنطقة التي تخطو نحو تحوّلات هائلة.
وفيما كانت بيروت تعيش «حَبْسَ أنفاسٍ» وسط مناخاتٍ راوحتْ بين نعي المسعى الفرنسي لتشكيل حكومةِ المَهمة الإصلاحية التي تنأى عنها القوى السياسية وبين ترْك نافذةِ أملٍ بمعجزةٍ تفْضي في حدّها الأقصى إلى تطويع المبادرة في مسودّتها الأصلية ووضْع لبنان تالياً في فم «وصْفة الغضب» الأميركية – الدولية الجاهزة، رأت أوساط واسعة الاطلاع أنه لا يمكن قراءة خفايا «الورطة» التي وجدت باريس نفسها فيها على المسرح اللبناني من دون الوقوف «على التلة» التي تتيح رؤيةً «ماكرو» للواقع الجيو – سياسي الذي يتحكّم بالمنطقة.
واعتبرت هذه الأوساط أن جوهرَ المبادرة الفرنسية القائم على «فصْل المسارات» بين الجانب السياسي ببُعده الاقليمي للأزمة اللبنانية وبين الجانب التقني المالي – الاقتصادي عبر تزويد بيروت بمكابح تفْرمل السقوط الحرّ «حتى الزوال» في حفرة الانهيار الكبير، بدا أنه محكومٌ بخلفيات ترتبط بحساباتِ 3 أطراف خارجية تتحرّك على رقعة الشطرنج اللبنانية – الاقليمية:
* الأوّل، الولايات المتحدة التي تُقارِبُ الملفَ اللبناني من زاوية المواجهة الكبرى والمفتوحة مع إيران وأذْرعها وفي مقدّمها «حزب الله»، وهو ما ظهّره بلا قفازاتٍ وزيرُ الخارجية الأميركي مايك بومبيو في الساعات الماضية، رافِعاً ما يشبه البطاقة الصفراء بوجه مبادرة الرئيس ايمانويل ماكرون، وساعياً إلى تصفيحها بإزاء أي انزلاقاتٍ لها نحو شروط الحزب وحلفائه بما يسمح له بإعادة سبْك الدينامية الفرنسية، التي قُدّمت على أنها “فرصة ذهبية” للبنان، وتمكينه أكثر في لبنان كرأس حربةٍ للمشروع الإيراني في المنطقة.
* الثاني، فرنسا التي لا يمكن عَزْلُ اندفاعتِها على الساحة اللبنانية التي أعقبت الانفجار الهيروشيمي في مرفأ بيروت عن رغبتها في العودة إلى المنطقة وشرق المتوسط، وهو ما يجعل أي فشل للمبادرة التي رمى ماكرون من خلالها بثِقْله بمثابة انتكاسةٍ من شأنها أن تترك تداعيات كـ «الدومينو» على مجمل الدور الذي تحوكه باريس لنفسها بين خطوط النار والغاز في الاقليم.
* والثالث، إيران التي تتعاطى مع الواقع اللبناني من منظار الصراع المفتوح مع الولايات المتحدة و«مشروعها الامبراطوري» المترامي الساحات.’
وثمة مَن يرى أن طهران باتت تجد نفسها أمام قواعد جديدة يفرضها بدءُ نهايةِ الصراع العربي مع اسرائيل و«تعليقِ» القضية الفلسطينية، وما يترتّب على دخول دولٍ خليجية في سلامٍ مع تل ابيب من تحوّلاتٍ ما فوق استراتيجية، ناهيك عن المَفاعيل المتدحْرجة لبناء جدارٍ من السلام العازل حول إيران يحدّ من استخدامها مَلاعب الآخرين في معاركها.
ومن هذه الزاوية، فإن إيران يصعب أن تتراخى أمام أي محاولةٍ لإضعاف ركائز «التحكم والسيطرة» اللذين بات «حزب الله» يدير عبْرهما الواقعَ اللبناني، وأن تقدّم «جوائز ترضية» لفرنسا خصوصاً وسط ارتيابٍ، له مرتكزاته، من أن مبادرة ماكرون هي «الخطة ألف» من مسارٍ يقف الأميركي على طرَفه الآخَر ويرمي إلى تقويض نفوذ الحزب في لبنان وإنهاء أدواره في المنطقة.
ومجمل هذه الاعتبارات تفسّر التدافعَ الخشن على تخوم الساعات الأخيرة من المهلة الفرنسية التي بدت أمام موعد جديد اليوم (عوض أمس) لحسْم اتجاهاتها «يا أبيض يا أسود»، وسط دقّ باريس «جرسَ الإنذار» وهي تُراقِب انهيار مسعاها سواء باعتذار الرئيس المكلف تشكيل «حكومة ماكرون» مصطفى أديب (اليوم)، أو باستدراج هذه المبادرة إلى «بيت طاعة» حزب الله الذي أقام تحصينات أوّلها طائفي حول حقيبة المال و«وزن» المكوّن الشيعي داخل الحكومة، وليس آخِرها سياسي حول التوازنات وفق ما أفرزتْه الانتخابات النيابية.
ففيما أطلقت فرنسا «نصف نعي» لمبادرتها عبر إبداء مسؤول في الاليزيه أسفه «لفشل الزعماء اللبنانيين في الالتزام بتعهداتهم التي قطعوها للرئيس ماكرون في الأول من سبتمبر وفق الإطار الزمني المعلن» مُتداركاً «لم يفت الأوان بعد، وعلى الجميع الاضطلاع بمسؤولياتهم والتصرف بما يصب في مصلحة لبنان وحده بإتاحة الفرصة لمصطفى أديب لتشكيل حكومة بما يلائم خطورة الوضع»، لم يكن ممكناً الجزم إذا كان هذا الكلام الذي خاطبتْ فيه باريس اللبنانيين بالإعلام وليس عبر «الخط الساخن» المفتوح من الاليزيه ينطوي على مرونةٍ حيال تمديد إضافي لـ «الفرصة الأخيرة»، رغم ما عبّرت عنه تطورات الأمس من استمرار الدوران في حلقة تعقيدات تتمحور خصوصاً حول حقيبة المال إلى جانب حجم الحكومة ولمَن الإمرة في تسمية الوزراء.
وشكّل موقفُ الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري الذي أعلن فيه أن «وزارة المال وسائر الحقائب الوزارية ليست حقاً حصرياً لأي طائفة، ورفْضُ المداورة إحباطٌ وانتهاكٌ موصوف بحق الفرصة الأخيرة لانقاذ لبنان» الإشارةَ الأبرز الى حجم التصلب الذي يحوط بالمبادرة الفرنسية التي تشكّل المداورة في الحقائب حجر الرحى فيها باعتبارها ممراً إجبارياً للإصلاح.
وترافَق كلام الحريري الذي يُتهم بأنه يدير ملف التأليف عن بُعْد مع رؤساء الحكومة السابقين الآخَرين، مع ما يشبه عملية تقاذُف لكرة المسؤولية عن سقوط المبادرة الفرنسية، وهو ما أشّرت إليها مناخاتٌ أوحت بأن الثنائي الشيعي حزب الله – رئيس البرلمان نبيه بري مُنْفَتح على الحوار ولكن أحداً لا يتواصل معه، متحدثاً عن «تصويبٍ لمسار المفاوضات» وعن «أن أحداً لم يتحدّث معنا حول حقيبة الداخلية».
ووضعت أوساطٌ سياسية هذا الجو في سياق التنصّل من الانقلاب على المبادرة الفرنسية التي بدت بين خياريْن أحلاهُما مُر: إما تقويضها الذي يوصل إلى اعتذار أديب اليوم، ما لم تفْرض الاتصالاتُ التي دخلتْ على خطّها مصر عبر سفيرها في بيروت مكلّفا من الرئيس عبدالفتاح السيسي تمديد المهلة إنقاذاً للمبادرة من موتٍ سيجرجر كوابيس على لبنان، وإما ترويضها عبر التراجع عن مرتكزاتها ولو على شكْل تنازلاتٍ مقنّعةٍ للثنائي الشيعي (يتمسك بالمالية ويصرّ على تسمية وزرائه) يكمن لها «الثورُ الأميركي الهائج».
وفيما أفادت تقارير أن السيناريو المحتمل اليوم هو أن أديب سيعتذر بعد زيارة رئيس الجمهورية ميشال عون من دون الجزم إذا كان ذلك سيحصل مع تقديمِ التشكيلة التي كان يراها مطابقة للمبادرة الفرنسية لرئيس الجمهورية أم لا، فإن بعض الأوساط تساءل إذا كان عون وأمام حجْم ما سيترتّب على إحباط المبادرة الفرنسية وما يلوح من عقوبات أميركية جديدة على شخصيات رفيعة في لبنان، قد يعمد إلى توقيع تشكيلة الأمر الواقع ورمْيها في أحضان البرلمان، وهو ما سيعكس بحال حصوله إما تَمايُزاً اضطرارياً بين فريق عون والثنائي الشيعي وإما قطبة مخفية لن تتأخر خفايا في الظهور.