بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب، سلط الضوء على التهريب والتهرّب الضريبي والرشاوى وأرباح المناقصات والمزادات العلنية المشكوك بها، والرواتب الخيالية التي يستفيد منها موظفو المرفأ المحسوبون على القوى السياسية.
إلا أن في مرفأ بيروت أيضاً “خطا” سريعا لحزب الله، يمكّنه من تمرير ما يريد من دون رقيب أو حسيب، فضلاً عن صفقات تعود بالفائدة على مسؤولين وموظفين محسوبين على قوى سياسية.
ويقول الباحث محمد شمس الدين من مركز “الدولية للمعلومات” الذي نشر دراسات عدة حول الفساد والتهرب الضريبي في لبنان لوكالة فرانس برس أن مرفأ بيروت يُعدّ من أكثر المرافق فساداً، وأضاف أنه ليست هناك أي رقابة فعلية من الحكومة عليه، سواء على جباية الأموال أو إنفاقها.
وكما في كل مؤسسات الدولة، يتم اختيار أعضاء اللجنة بحسب انتمائهم الطائفي: رئيس سني، وستة أعضاء يمثلون الطوائف الرئيسية، ويكون المحظيون مدعومين من أبرز الأحزاب السياسية.
ويضيف شمس الدين أن نظام المحاصصة ذاته في الدولة ينطبق على المرفأ.
إلى ذلك، يستخدم حزب الله المرفأ لتمرير بضائع لصالحه أو لصالح رجال أعمال محسوبين عليه، وفق مصادر عدة للعربية.
وفي هذا السياق، قال رئيس مجلس شورى الدولة السابق القاضي شكري صادر لفرانس برس أنه من المعروف أن هناك بضائع لحزب الله تمر عبر المرفأ والمطار، فضلا عن المعابر الحدودية.
وأكمل صادر أن في المرفأ كما في المطار، لدى حزب الله خط عسكري تمر عبره البضائع والسلع من دون تفتيش أو رقابة، موضحاً أن هذا الخط هو نتيجة اتفاق ضمني مع السلطات على ألا يقترب منه أحد.
يُشار إلى أنه في العام 2019، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على المسؤول البارز في حزب الله وفيق صفا بسبب استغلاله الموانئ والمعابر الحدودية اللبنانية للتهريب وتسهيل السفر بالنيابة عن حزب الله، وفق ما جاء في بيان للسفارة الأميركية آنذاك.
وبعد الانفجار الذي تسبّب بمقتل أكثر من 190 شخصاً وإصابة أكثر من 6500 آخرين بجروح، تحدث البعض عن سلاح ومواد أخرى غير قانونية يخزنها حزب الله في المرفأ، لكن الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله نفى أي علاقة لحزبه بمرفأ بيروت.
ولا تقتصر “الأعمال” في المرفأ على حزب الله، فقد سمّى تقرير أعده جهاز أمني قبل أشهر واطلعت وكالة “فرانس برس” على نسخة منه، بالاسم خمسة موظفين على الأقل في مفرزة الجمارك في قسم معاينة البضاعة يُمنع استبدالهم، وفق ما ورد فيه.كما أورد التقرير بالتفصيل تبعيتهم لمسؤولين محسوبين بدورهم على التيار الوطني الحر، حزب الله، حركة أمل، تيار المستقبل، حزب القوات اللبنانية.
لكن الخبراء لم يجزموا ما إذا كانت هذه المداخيل غير القانونية تستفيد منها الأحزاب مباشرة، أم فقط الموظفون المحسوبون عليها.
وتبلغ إيرادات إدارة المرفأ السنوية نحو 220 مليون دولار، يعود منها 60 مليونا فقط إلى خزينة الدولة، وفق شمس الدين الذي يوضح أن الباقي يفترض أنه يستخدم للرواتب والأجور ولتطوير مرفأ، “إلا أننا فعلياً لا نعرف إلى أين يذهب”.
أما في ما يتعلق بالجمارك، فيقدّر حجم التهرّب الجمركي سنوياً، وغالبيته من المرفأ، بين مليار وملياري دولار في بلد راوح العجز في الموازنة فيه خلال العامين الماضيين بين خمسة وأكثر من ستة مليارات دولار.
وعلى مر السنوات، خرجت إلى العلن مرات عدة فضائح فساد ما لبثت أن أعيدت ملفاتها إلى الأدراج، من دون محاسبة أحد.
فبحسب شمس الدين تستخدم القوى السياسية البارزة في البلاد، نفوذها من أجل توظيف أشخاص محسوبين عليها في المرفأ أو تعيين مسؤولين يغضون الطرف عن عمليات تهريب وتهرب جمركي لرجال أعمال يدعمون هذا الحزب أو ذاك، أو التأثير في عقود الشركات العديدة مع إدارة المرفأ، إذ إن تلزيم الأشغال يجري بالتراضي، والكل يستفيد.
كما أشار شمس الدين إلى أن عمليات التهريب تتم في معظم الأحيان “عبر جمعيات خيرية وهمية تستحصل على مرسوم من الحكومة يعفيها من الرسوم الجمركية.. فيما يعرف الجميع حقيقة الأمر”.
إلى ذلك، بيّن التقرير الأمني أن موظفي المرفأ من أصغرهم إلى أكبرهم وعناصر الأجهزة الأمنية الذين يعملون فيه أيضاً، يتلقون رشاوى تتنوع بحسب البضائع التي يسرّعون تمريرها أو يخفّضون رسوم مرورها أو يغضّون النظر عنها.
على سبيل المثال، يتقاضى، وفق التقرير، رئيس كل فرقة مشرفة على المدخل الرئيسي للمرفأ مئتي ألف ليرة عن السيارة المستعملة لتسهيل خروجها. ويتقاضى آخرون في الجمارك أيضاً حصتهم على السيارة المستعملة ومهمتهم تخفيض قيمتها في عملية التقييم، وبالتالي تقليل كلفة الضريبة عليها.
أما ما هو أخطر من ذلك، فهو “الممنوعات” كالسلاح والمخدرات مثلاً التي تهرّب أحياناً داخل سيارات مستعملة، وفق التقرير.
والمفارقة أن جهاز الكشف بالأشعة السينية “السكانر”، الوحيد في المرفأ، معطل.
وفي السياق، قال مصدر في الجمارك لفرانس برس: “السكانر متوقف عن العمل منذ نيسان 2019 بسبب عطل تقني”، مشيراً إلى أنه قديم جداً وكلفة تصليحه وتغيير قطعه تتخطى قيمة سعره.
لكن إدارة المرفأ لم تقدم على تغييره نتيجة خلاف داخل الحكومة حول تلزيمه.
وتوقف “السكانر” يعني أن عمليات التفتيش تحصل يدوياً فقط، ما يسهّل المخالفات. كما أن عمليات دفع الرسوم وإخراج البضائع لا تزال تتم على الورق ويدوياً أيضاً.
أمام هذا الواقع المعقد، والفساد المتجذر، يُشكك كثر في قدرة التحقيق الذي تقوم به الدولة اللبنانية على الوصول إلى الحقيقة في موضوع الانفجار بسبب انعدام الثقة بالمؤسسات على اختلافها.