… يعتذر، لن يعتذر، قد يعتذر وربما لا يعتذر. المبادرةُ الفرنسية سقطتْ، لم تسقط، تترنّح. المهلة الفرنسية لتشكيل الحكومة الجديدة انتهت، لم تنته، باقية وتتمدّد.
هكذا كان المشهد أمس في لبنان المعلّق على «حبل رفيع» تشكّله مبادرة الرئيس ايمانويل ماكرون لتأليف حكومةٍ تدير المرحلة الانتقالية اقليمياً ودولياً وتجمِّد السقوطَ المروّعَ لـ «بلاد الأرز» والتي سرعان ما علقت في «حبائل» النزاعات الداخلية وصفائح الصراع الكبير في المنطقة، حتى بدا وكأن المسعى الفرنسي الإنقاذي بات يحتاج إلى مَن يُنْقِذه.
وللمرّة الثانية في 48 ساعة، يعود الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة مصطفى أديب عن اعتذاره تحت عنوان «التريّث» وإعطاء فرصة إضافية للمهلة الفرنسية الأخيرة (مُدّدت من الثلثاء إلى الأحد المقبل)، وهو العنوان الذي بات بمثابة «الاسم الحَرَكي» الذي يختزل مسار التأليف المدَجَّج بألغام محلية تطلّ على صراع الأوزان والتوازنات في البلاد والنظام وأخرى خارجية محكومة بخطوط حمر تجعل باريس تتحرّك لبنانياً وفق معادلة إرضاء «حزب الله» كمفتاحٍ لأيِ حظوظِ حياةٍ لمبادرتها وعدم إغضاب الولايات المتحدة المتوثّبة رفْضاً لتحويل مبادرة ماكرون «ديفرسوار» تستفيد منه الحزب ومن خلفه إيران للالتفاف على لعبة «الضغط الأقصى» الأميركية عبر منْحه «هدايا مجانية» تزيد من تمكينه داخلياً وإقليمياً.
وإذ جاءت الدفعةُ الجديدة من العقوبات الأميركية أمس (شملت شركتين وأحد الأفراد لصلاتهم بحزب الله) بحق «حزب الله» أقرب إلى «العملية التذكيرية» له ولحلفائه ومجمل لطبقة السياسية اللبنانية وفق ما عبّرت عنه خلفيات استهداف سلطان خليفة أسعد وشركتيْ «آرتش» و«معمار» وكلام وزير الخارجية مايك بومبيو، رأت أوساطٌ مطلعة أن عدم شمول العقوبات شخصيات سياسية رفيعة كامتداد لإدراج الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوصف فنيانوس (قبل 10 ايام) جاء أقرب إلى إبقاء العصا مرفوعة على الواقع اللبناني من دون تسديد ضربة قاضية للمبادرة الفرنسية التي صارت تعيش على «التنفس الاصطناعي» ومَنحها تريُّث أديب عصر أمس في الاعتذار بعد زيارته الرئيس ميشال عون نَفَساً إضافياً حتى الأحد المقبل مبدئياً.
وكان خميس «الأعصاب المشدودة» طُبِع بتقلّباتٍ في مناخ التأليف «على مدار الساعة» سابقتْ موعدَ الخامسة عصراً الذي حدّده أديب لإبلاغ عون «الموقفَ النهائي» وعكستْ تَوَسُّعَ محاولاتِ «نفْض اليد» من «دم» المبادرة الفرنسية عبر الاتهاماتِ المتبادلة بين الأطراف المعنية في الداخل بـ «الانقلابِ» إما على مبادىء هذه المبادرة وحكومتها، وفق ما أُخذ على الثنائي الشيعي حزب الله – رئيس البرلمان نبيه بري، أو على التوازنات القائمة في البلاد و«لوحةِ التحكّم» فيها بحسب ما ارتابَ منه هذا الثنائي، وصولاً إلى اعتبارِ الحزب علناً أن واشنطن تشكّل القاطرة الخارجية لإحباط استيلاد الحكومة.
وبلغتْ لعبةُ رَفْعِ السقوف التي جرتْ فعلياً من قلْب القعر الذي يتدحْرج فيه لبنان ذروتَها منذ منتصف ليل الاربعاء – الخميس وحتى ربع الساعة الأخير قبل وصول أديب إلى قصر بعبدا، وذلك على تخوم العقدة – الأم المتمثّلة بتمسُك الثنائي الشيعي بحقيبة المال وتسمية ممثّليه في الحكومة والتي بدت رأس جبل جليد شروطٍ امتدّت من الثلث المعطّل، إلى البيان الوزاري المفترض وصولاً إلى الصلاحيات الاستثنائية التي تحتاج إليها «حكومة المَهمة» الإصلاحية لـ «اختصار المراحل» في الطريق إلى ترجمة مندرجات الورقة الفرنسية المُجَدْوَلة زمنياً وقِطاعياً.
وتجلّت الأبواب الموصدة أمام إحداث اختراقٍ يُنقِذ المبادرةَ الفرنسية في الوقائع الآتية:
– تَعَمُّد أديب «المُقِلّ بالكلام» تعميم ما يشبه «حيثيات الاعتذار» قبيل اجتماعه الذي رُوِّج أنه سيكون حاسماً مع ممثليْ «حزب الله» وبري (علي حسن خليل وحسين خليل) من خلال ما نقلتْه للمرة الأولى مصادر قريبة منه عن «ان المهمة التي تم تكليفي على أساسها نتيجة تفاهم غالبية القوى السياسية اللبنانية، هي تشكيل حكومة اختصاصيين غير سياسية، في فترةٍ قياسية، والبدء بتنفيذ الاصلاحات فوراً، وعلى هذا الاساس لم يكن الهدف لا التفرّد بالرأي ولا استهداف أحد من المكوّنات السياسية اللبنانية، بل اختيار تشكيلة حكومية من اختصاصيين، وأي طرح آخر سيفرض تالياً مقاربةً مختلفة للحكومة الجديدة، وهذا لا يتوافق مع المهمة التي كُلفت من أجلها».
وأضاف أديب وفق مصادره: «لأنني حريص على أن تبقى المهمة التي أقوم بها متوافقة مع روحية التفاهم الأساسي على حكومة اختصاصيين، طلبتُ من الرئيس ميشال عون إرجاء الاجتماع بيننا (من صباح أمس) الى عصر الخميس، لأجراء مزيد من الاتصالات قبل تحديد الموقف النهائي».
– تَعَمُّد «حزب الله» وخلال اجتماع أديب مع «الخليليْن» إصدار موقف قاطِع «بأننا نرفض أن يسمي أحدٌ عنا الوزراء الذين ينبغي أن يمثّلونا في الحكومة، كما نرفض بشكل قاطع أن يضع أحدٌ حظْراً على تَسَلُّم المكوّن الذي ننتمي إليه حقيبةً وزارية ما، وحقيبة المال خصوصاً، وفيما عدا ذلك، فإننا منفتحون على النقاش».
وقدّمت كتلة نواب «حزب الله» بعد اجتماعها ما يشبه «مضبطة الاتهام» ضمناً بحق رئيس الحكومة السابق سعد الحريري ومباشرةً بحق الولايات المتحدة باعتبارهما المسؤوليْن عن «تخريب» المبادرة الفرنسية، إذ استغربت “أن ينحو بعض مَن يشكل الحكومة في الظلّ إلى مصادرة تمثيل المكوّنات الأخرى عبر منْعهم الرئيس المكلف من التشاور مع الكتل، واستحداث آلية جديدة تقضي بمنْع المكوّنات من تسمية وزرائهم من جهة، والإخلال بالتوازن الحكومي عبر انتزاع حقيبة المال من غيرهم وتسلُّمهم إدارتها من جهة أخرى”، مضيفة: «وما زاد الطين بلة هو كلام وزير خارجية أميركا الذي غمز من قناة الفرنسيين لمجرد أن التقى رئيسهم مسؤولاً كبيراً في حزب الله (النائب محمد رعد)، الأمر الذي يشير بوضوح إلى الدور الأميركي البالغ السلبية والهادف إلى تخريب كل الجهود المبذولة لتشكيل الحكومة».
واعتبرت أن «محاولات بعضهم الاستقواء بقوى خارجية لتشكيل حكومة مزوَّرة التمثيل لمصلحة فريق واحد، هي محاولات ترمي الى تجويف مضمون المبادرة الفرنسية، ورغم ذلك فإن الكتلة لا تزال ترى الفرصة متاحة لترميم ما خرّبه الذين يتولون في الظل عملية تأليف الحكومة الجديدة».
– ما يشبه القنابل الدخانية التي جرى رمْيها في كواليس عملية التأليف بهدف التعمية على مكْمن المشكلة، وبينها إشاعة الثنائي الشيعي أجواء ايجابية عن خرْق محتمل ينطلق من عدم ممانعة فرنسا أن يتولّى المكوّن الشيعي حقيبة المال وأن المداورة ليست في صلب مبادرة ماكرون، وصولاً إلى ترويج أن الحريري سلّم بأن تبقى المالية من الحصة الشيعية على أن يتولى شخصياً تسمية وزيرها، وهو ما سارع المكتب الإعلامي لزعيم «تيار المستقبل» لنفيه على شكل قاطع مؤكداً أنه ثابت على موقفه من المداورة الشاملة ورفْض أن تكون «وزارة المال وسائر الحقائب حقاً حصرياً لأي طائفة».
– الترويج لمخرج يقوم على أن تُستثنى «المالية» من المداورة الطائفية لتشمل الحقائب الأخرى، وهو ما لم تَظْهر أي مرتكزاتٍ له، وسط تقارير نقلت عن مصادر معنية بالتأليف أن إبقاء المالية مع الثنائي الشيعي وفرْض أسماء ممثّليه سيفتح المجال أمام مطالبة قوى أخرى بحقائب محدّدة والأهم بتسمية وزرائها، وتالياً معاودة إدخال القوى السياسية في عملية تَحاصُص للحكومة وفق معيار الأكثرية النيابية بما يجعلها نسخّة منقّحة عن حكومة الرئيس حسان دياب التي يفضّل أديب الاعتذار على أن يكرر التجربة عيْنها التي يرسم المجتمع الدولي خطاً أحمر حولها.
وعلى مدار هذا المخاض، بَقِيَ ماكرون على الخطّ مع بيروت في محاولةٍ لتَفادي سقوط مبادرته وفتْح الواقع اللبناني على المجهول المُرْعِب، وسط تكثيف هائل للاتصالات بعد اللقاء السلبي بين أديب وممثليْ الثنائي الشيعي بما أفضى إلى إعطاء فرصة أخيرة جديدة لكسْر المأزق وتَلافي إفشال باريس العائدة إلى المنطقة بقوة والطامحة إلى دور «الشرطي الجيد».